الحملة التي يشنّها «تيار المستقبل» وحلفاؤه من بعض قوى 14 آذار على الجيش اللبناني، ليست بجديدة، بل هي تعود الى أكثر من عقدين عندما تولى الرئيس رفيق الحريري رئاسة الحكومة نهاية العام 1992، حيث اصطدم بقائد الجيش آنذاك العماد إميل لحود والذي يؤكّد في أحاديث دائمة له، أن الحريري عرض عليه مبلغاً مالياً ليوزعه على ضباط الجيش لكنه رفضه، مبرراً تقديمه المساعدة الى الوضع المالي الصعب بسبب تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية آنذاك أمام الدولار الأميركي والتلاعب به، وهو من الأسباب التي أوصلته الى السراي كما يروي الرئيس عمر كرامي.
رفض العماد لحود ما عرضه الحريري، بالرغم من إلحاح رئيس الجمهورية الياس الهراوي عليه القبول بالهبة المالية التي قبلها هو، حيث توترت العلاقة منذ ذلك الوقت بين رئيس الحكومة والمؤسسة العسكرية التي سعى وزير المال فؤاد السنيورة لمحاصرتها مالياً، وتخفيض موازنتها، فوقع الصدام مرة ثانية في مقر وزارة المالية في العام 1994 عندما اقتحمها ضباط وعناصر من الجيش رافضين المس بموازنة وزارة الدفاع.
وكانت ذروة الخلاف بين الحريري ومعه الرئيس الهراوي والى حد ما الرئيس نبيه بري مع العماد لحود، عندما حاول مجلس الوزراء استصدار قرار بإرسال الجيش الى الجنوب بعد عدوان تموز عام 1993 تحت اسم «تصفية الحساب» على لبنان والمقاومة، لكن قائد الجيش رفض الاصطدام بالمقاومة، وأن يكون الجيش «حرس حدود» للكيان الصهيوني، وقد وضع استقالته أمامهم، وقد أبلغوه أنه يخالف قرار سوريا التي لا تمانع قيادتها من انتشار الجيش في الجنوب، لكن تبيّن أن هذه المعلومات مغلوطة، وقد علم الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بالموضوع، وأخذ بموقف لحود الذي نشأت علاقة وطيدة معه، أوصلته الى رئاسة الجمهورية.
وفي تلك المرحلة كان مؤتمر مدريد قد بدأ للبحث بعملية السلام بين العرب ومعهم الفلسطينيون وبين العدو الإسرائيلي، في العام 1991، وكانت سوريا من المشاركين في المؤتمر، وبدأ الحريري يروّج أن المنطقة مقبلة على سلام وفتح الحدود والتطبيع ويجب أن يتحضّر لبنان له ويوقف المقاومة، ويؤسس لاقتصاد يتماشى مع السلام وتأمين البنية التحتية له، وعلى المقاومة أن ترمي سلاحها، لأنه لا فائدة منه، وستنسحب «إسرائيل» من لبنان بالمفاوضات، وإن كان لم يدعَ الى مؤتمر مدريد، وقد وقع صدام بين الجيش والمقاومة في أيلول من العام 1993 والتي كانت تتظاهر استنكاراً للتوقيع المنفرد على اتفاقية أوسلو بين رئيس وزراء العدو الإسرائيلي إسحق رابين ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، وقد سقط تسعة قتلى وعشرات الجرحى من المتظاهرين عند جسر المطار، وكان الهدف منه توريط الجيش بقتال مع المقاومة التي استوعبت المجزرة، كما أن العماد لحود استطاع أن يضبط الوضع، لأن المسؤولية لا تقع عليه بل على السلطة السياسية التي أعطت القرار، الذي كان يراد منه أن يتمّ ضبط المقاومة وسلاحها والتوقف عن العمل المقاوم في ظل «أجواء السلام» التي تعمّ المنطقة، لكن ما حصل أن “إسرائيل” تنكّرت لإتفاقية أوسلو، واغتيل أحد مُوقّعيها رابين قبل أن يتمّ انسحابه من الضفة الغربية، وهذا ما عزّز دور المقاومة في لبنان، وخرست أصوات الداعين الى تسوية سلمية.
وكان سقوط اتفاق أوسلو، وصعود المقاومة ونجاح عملياتها وتحرير أراضٍ لبنانية بدأ العدو الإسرائيلي ينسحب منها، كما فعل في جزين وشرق صيدا، وهو ما فرض المقاومة كخيار لا بدّ منه، تمّ تبنّيه في البيانات الوزارية للحكومات في عبارة «الجيش والشعب والمقاومة»، حيث نجح التنسيق بين الجيش والمقاومة، وكان التناغم فاعلاً، فلم يحدث أي حادث يعكّر صفو العلاقات التي ترسّخت في تصدي الجيش مع المقاومة للعدوان الإسرائيلي في نيسان عام 1996 تحت اسم «عناقيد الغضب» حيث صمد لبنان بوجهه، وفرض على «إسرائيل» توقيع «تفاهم نيسان»، حيث لعب الرئيس الحريري دوراً دبلوماسياً مع فرنسا ودول أوروبية وأميركا والأمم المتحدة، بتوجيه من الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد الذي خاض مفاوضات مع وزير الخارجية الأميركية وارن كريستوفر الذي خضع لشروط المقاومة، وشرّع دولياً استخدامها الصواريخ بالرد على أي عدوان إسرائيلي يستهدف المدنيين اللبنانيين أو بلدات لبنانية، وقد شكّل هذا التفاهم أول اعتراف دولي بالمقاومة التي حظيت بدعم داخل لبنان وتأييد شعبي عربي رفع من أسمها، وأسكت أصواتاً لبنانية كانت تطالبها وقبل أن تنسحب «إسرائيل»، بأن لا جدوى من المقاومة العسكرية التي تضع لبنان دائماً تحت مرمى النيران الإسرائيلية، لكن هذه المواقف التي كانت صدى لمواقف أميركية وإسرائيلية وأخرى عربية، كانت لا تريد للمقاومة أن تقوى وتنتصر، وقد ربطت دول خارجية دعمها للبنان بنزع سلاح المقاومة ووقف عملياتها ضد الاحتلال الإسرائيلي، كما كان مشروطاً تزويد الجيش اللبناني بالسلاح، هو أن يفك ارتباطه بالمقاومة، وأن يكون هو صاحب السلاح الشرعي الوحيد، ويلتزم اتفاق الهدنة مع الدولة العبرية، لكن قيادة الجيش كانت ترفض هذه الإملاءات، كما أن سوريا شكّلت غطاءً للجيش كي يبقى على تنسيق وتعاون مع المقاومة، لاسيما وأن عقيدته باتت واضحة وهي أن «إسرائيل» هي العدو.
لقد أزعج هذا التعاون أميركا و«إسرائيل» وحلفاءهما، وبدأ التشكيك بالجيش ومحاولة تصويره وكأنه يأتمر من سوريا ويعمل تحت ضغط المقاومة، وبوشرت حملة على ما ابتدعوا تسميته بـ «النظام الأمني اللبناني – السوري المشترك»، وسعى الحريري الى أن يمنع وصول العماد لحود الى رئاسة الجمهورية في العام 1995، وتمّ التمديد للرئيس الهراوي، لكن في العام 1998، لم يتمكّن الحريري ومعه الفريق السوري المؤيّد له المؤلف من عبدالحليم خدام واللواء حكمت الشهابي والعميد غازي كنعان، من عدم انتخاب لحود رئيساً للجمهورية لأنه بذلك سيعطي المقاومة كل الدعم، كما كان في أثناء قيادته للجيش، فلم يتعاون الحريري مع لحود ورفض أن يكون رئيساً للحكومة معه، وقد أيّده النائب وليد جنبلاط الذي امتنع عن انتخاب لحود متذرعاً بأنه ضد وصول العسكر الى الحكم، بالرغم من دعمه لانتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان في العام 2008رئيسا للجمهورية، وأيّد والده المرحوم كمال جنبلاط انتخاب قائد الجيش فؤاد شهاب في العام 1958، إلا أن رفضه لوصول لحود الى رئاسة الجمهورية يتعلّق بخط سياسي يدعم المقاومة، في وقت كان جنبلاط يقترب من الداعين لانسحاب القوات السورية من لبنان، وبدأ يوطّد علاقاته بالبطريرك صفير الذي أسّس بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب في 25 أيار 2000، لقاءً سياسياً لاستعجال خروج الجيش السوري من لبنان، الذي كان يشكّل دعماً للمقاومة والجيش اللبناني.
فالجيش كان الرئيس رفيق الحريري يعتبره خارجاً عن قراره وإرادته، و مديرية المخابرات فيه، تعمل ضده منذ أن تسلّمها العميد جميل السيّد، وهو سعى لأن يقيم بموازاتها شعبة للمعلومات تابعة للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي تزوّده بالتقارير الاستخباراتية والأمنية، التي لا ترفعها له مديرية المخابرات التي كان يتهمها أنها تتنصّت على هواتفه، وزرعت بين مساعديه مخبرين لها، وكانت التقارير تستخدم ضده، لاسيما علاقاته الخارجية التي كان النظام السوري يرتاب منها، ويعتبر الحريري من ضمن مشروع إقليمي ودولي ضده، وكان يحتاط منه، وقد سعى في عهد الرئيس لحود الى إقصاء فريقه من مواقع القرار في الدولة، لكن داعمي الحريري داخل النظام السوري كانوا أقوياء، وقد أعادوه بعد انتخابات العام 2000 قوياً، مما وضعه في موقع مَن بدأ يفرض شروطه وأول ما كان يريده هو إضعاف دور مخابرات الجيش، ورفض تدخلها في الشؤون السياسية والمدنية، وحصر اهتمامها بالشأن العسكري، وضرورة أن تقوم شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي، وتعطى ميزانية لها.
فالصراع مع الجيش افتتحه الحريري الذي لم يطمئن الى قيادته ولا الى مخابراته، والمرة الوحيدة التي وقف معه، كان في أحداث جرود الضنية نهاية عام 1999، عندما تصدى الجيش لجماعة إسلامية تكفيرية تحت اسم «جماعة التكفير والهجرة»، التي قتلت ضابطاً وعناصر عسكرية، وهو الأسلوب نفسه الذي استخدمه تنظيم «فتح الإسلام» بقتله حوالي عشرين عنصراً من الجيش في نهر البارد، فاندلعت اشتباكات في أيار 2007 بين الطرفين، فاضطر فؤاد السنيورة وكان رئيساً للحكومة الى دعمه للجيش.
أما اليوم، فإن «تيار المستقبل» ومعه قوى 14 آذار يحاولون تشويه صورة الجيش، الذي يريدونه أن لا يكون الى جانب المقاومة، وإسقاط ثالوث «الجيش والشعب والمقاومة»، كما يرغبون أن يغض النظر عن عبور السلاح من لبنان الى سوريا لدعم المسلحين ضد النظام السوري، لكنه لم يفعل، لا بل هو تصدى، عندما استطاع، لتهريب السلاح أو تسلّل المسلحين سواء من لبنان الى سوريا أو العكس، وقد ساهمت الأحداث في سوريا، وصعود «الإسلام السياسي» والحركات «السلفية»، ووصولهم الى السلطة في عدد من الدول العربية، الى استيقاظ خلايا نائمة في طرابلس والشمال وبلدات لبنانية، وكلها ذات كثافة سنّيّة، وقد حملت كلها لواء الدفاع عن «الثورة السورية» واحتضنت عناصرها في لبنان وأقامت لها مخيمات تدريب وقواعد لاسيما في عكار وعرسال، وقد استهدفت مجموعات لبنانية وسورية مراكز للجيش وقتلت عناصره، لأنها كانت تعتبره المؤسسة التي تحتضن المقاومة، وتنسق مع «حزب الله»، لا بل قام نواب من «تيار المستقبل» بالتشكيك بالمؤسسة العسكرية، ودعوة الضباط والجنود السّنّة الى الانشقاق عنها، وهي دعوة لاقت تأييداً من رجال دين سنّة، فأعلن داعي الإسلام الشهال الى ذلك جهاراً كما فعل النائب خالد الضاهر الذي تحدث عن أن الجيش يستهدف مناطق أهل السّنّة، وهو تحريض على المؤسسة العسكرية التي كانت تسكت عن حملات التجني عليها، كما كانت تتغاضى عن مقتل ضباطها وجنودها، حيث سقط العشرات منهم بين شهداء وجرحى، إلى أن حدثت مجزرة عبرا التي قتل فيها مسلحو الاسير ضابطين وخمسة عناصروكان الرد عليها من الجيش حاسماً بإنهاء البؤرة الأمنية في مسجد بلال بن رباح، واجتثاث ظاهرة أحمد الأسير التي شكّلت خطراً على الأمن الوطني والسلم الأهلي، لكن ما فعله الجيش لم يرق لـ «تيار المستقبل» الذي برّر لما فعله الأسير سياسياً، وقال السنيورة إنه يعبّر عن نصف الشعب اللبناني، وحمل على الجيش حيث اتّهم مع النائب بهية الحريري ضباطاً منه أنهم تواطأوا مع «حزب الله» الذي شارك الجيش في معارك عبرا، إلا أن قيام قيادة الجيش في مجلس النواب بعرض أفلام مصوّرة في مقرّ الأسير، تبيّن بالصوت والصورة أنه كان وراء الاعتداء على الجيش وكيف قام الأسير ومسلحوه بقتل ضباط الجيش وعناصره، وكان لهذا الفيلم وقع سلبي على نواب المستقبل وحلفائه، وأخرسهم، حيث أكّدت قيادته أنها لن تسكت بعد اليوم، حيث تبيّن أن الهجوم على المؤسسة العسكرية، هو منعها من القيام بدورها، وسحب ضباطها وجنودها الى الثكنات، ثمّ الدفع باتجاه الانشقاقات عنه، ليتسنى للمجموعات التكفيرية من أن تبسط سيطرتها على «المناطق السّنّيّة» ومنع الجيش من الدخول إليها على أنه «جيش فئوي، وهو السيناريو نفسه الذي حصل مع بداية الحرب الأهلية في العام 1975، عندما اتّهم الجيش على أنه «جيش المارونية السياسية»، وأدّى ذلك الى الانقسام حوله، ثمّ الى انقسامه وتشرذمه الى ألوية طائفية ومذهبية، وهو ما يريدون أن يتكرّر مع الجيش ووصفه بأنه «جيش الشيعة»، وإن مخابراته تعمل لصالح «حزب الله» والنظام السوري، وهذه الحملة، لم تلقَ التجاوب من الشعب اللبناني الذي بات يعرف أن انهيار الجيش يعني عودة الحرب الأهلية، التي استطاع الجيش حتى الآن من منع حصولها، وإن الخوف هو أن يتمّ إفراغه من قيادته مع إحالة قائده العماد جان قهوجي على التقاعد في أيلول المقبل، وقبله رئيس الأركان اللواء وليد سليمان سيحال على التقاعد في 8 آب المقبل، وهو ما سيشكّل فراغاً في القيادة العسكرية، حيث تتخوّف قيادات سياسية وأخرى رسمية من أن هذا الفراغ قد يؤدي الى استعجال نشوب حرب أهلية، هي الآن باردة وقد تتحوّل الى ساخنة، مع مسلسل التفجيرات الذي بدأ بوضع عبوات ناسفة ثم تفجير الضاحية الجنوبية، وأخيراً تفجير عبوة على طريق المصنع عند الحدود اللبنانية – السورية.
Leave a Reply