لم يعد سراً ولا مفاجئاً أن السبب الأكبر لمتاعب الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومشاكله هو ترامب نفسه. من التصريحات المرتجلة إلى المؤتمرات الصحفية المرتبكة مروراً بالأهم وهي التغريدات ذات اللغة المبتذلة، يصر الرئيس الخامس والأربعون لأكثر دولة نفوذاً في العالم، على مواصلة نهجه العشوائي الذي، بلا شك، أوصله إلى البيت الأبيض، لكنه أوصل واشنطن وعواصم العالم إلى حالة من الذهول وشيء من الفوضى، فيما شبح أكبر فضيحة منذ ووترغيت يلاحقه يومياً، ويضيف إلى كرة الثلج المتدحرجة، المزيد من المعطيات والمعلومات التي تنظر فيها لجنة تحقيق مستقلة ولجنتا تحقيق برلمانيتان.
حتى الآن نجح ترامب في تغيير ملامح الرئاسة الأميركية بعمق وفي دهورة السياق السياسي، الذي طالما تباهى بإستقراره وحرفيته وكفاءته، إلى حضيض الفلتان والرعونة والريبة. ويحتار قادة حزب الرئيس من الجمهوريين، خصوصاً اركان الأغلبية المحافظة بمجلسي الكونغرس في كيفية التعايش مع ظاهرة ترامب وهم يشهدون عن قرب عجزهم عن تحقيق أي انجاز تشريعي يذكر لتقديمه إلى جمهورهم، فيما يتجاوزهم الرئيس تباعاً من خلال المراسيم التنفيذية التي يريد منها أن تستبدل القوانين فتنتهي رهينة الإجراءات القانونية في المحاكم الفدرالية التي لا سلطة لترامب عليها.
بعد فشل الجمهوريين في تغيير سلوك ترامب وخيبة أملهم من عدم تكيفه مع موقع الرئاسة، راهنوا على الموضوع الذي يبقيه العرف السياسي عادة خارج التجاذبات السياسية والمناكفات الحزبية وهو السياسة الخارجية والتي كانت حتى عهد باراك أوباما تعمل بمقولة «الخلافات السياسية تنتهي على الشاطئ»، بمعنى انها تبقى داخل أميركا. وفي التقليد السياسي أيضاً، أن يقدم الرئيس الجديد رؤيته في الأشهر الأولى من عهده، ويطلق على تلك الرؤية اسم «العقيدة»، إن كانت شاملة، أو «المبدأ» إن كان في شأن معين. يفترض ذلك التقليد أن يكون الرئيس ترامب بعد رحلته الدولية الثانية الأسبوع الماضي قد صاغ عقيدته، لا سيما وأن علاقة أميركا بالعالم كانت في صلب حملته الانتخابية في مرحلتيها التمهيدية والعامة.
طبيعة الرحلتين الأوليين للرئيس، تجعل من توقع صياغة العقيدة الجديدة أمراً أكثر الحاحاً. حملته الزيارة الأولى إلى المملكة العربية السعودية حيث التقى قادة المملكة ودول مجلس التعاون الخليجي وعشرات الدول العربية والإسلامية، ما يعني أن موضوع النفط الاستراتيجي، وموضوع الإرهاب الداهم كانا على جدول الأعمال. من الرياض إلى تل أبيب ورام الله في فلسطين، ما يعني أن موضوع السلام العاقر في المنطقة كان على الطاولة. ومن فلسطين إلى الفاتيكان حيث الكرسي البابوي ونقاش ملف العلاقات بين الأديان والحريات الدينية، ومنها إلى بروكسيل حيث أكبر استثمار سياسي ومالي ودفاعي أميركي عبر التاريخ والقمة مع قادة حلف شمال الأطلسي، قبل زيارة المجاملة إلى إيطاليا.
ما تبقى من ملفات حساسة للسياسة الدولية لأميركا كان من نصيب الرحلة الثانية. المحطة الأولى في بولندا رمز ومفتاح العلاقة المعقدة مع روسيا وسلفها الاتحاد السوفياتي، والمحطة الثانية في هامبورغ المانيا للمشاركة في قمة العشرين التي كانت منذ ارتقائها إلى المستوى الرئاسي عام 2008، المنبر الأساس لبرنامج العمل الأميركي اقتصادياً وبيئياً وسياسياً ومالياً، وهو ما كان سائداً منذ تأسيس مجموعة العشرين على المستوى الوزاري في العام 1999، لمواكبة تداعيات انهيار الكتلة السوفياتية وانتشار العولمة. يفترض أن الرحلتين وفرتا لترامب كافة العناصر والمعطيات لتكوين عقيدة جديدة تستبدل عقيدة أوباما، التي رذلها الجمهوريون بلا هوادة ضاربين عرض الحائط بكل التقاليد والأعراف، خصوصاً في الاتفاق النووي مع إيران والانفتاح على كوبا، وكانت موضع سخرية ترامب وانتقاده لسنوات. فماذا حصل؟
قبل أن تحط طائرة ترامب في واشنطن على وقع تفاقم ملف التحقيق بالتدخل الروسي بعد انكشاف معلومات جديدة، كان من الصعب أن تجد في الصحافة الأميركية المستقلة أو محطات التلفزة أي شيء إيجابي عن ترامب وادائه، حتى صحيفة «وول ستريت» المحافظة المؤيدة له استبقت عودته بافتتاحية عنوانها «بوتين ليس صديقاً لأميركا» رداً على الود الذي أظهره ترامب بعد لقائه مع نظيره الروسي على هامش قمة العشرين.
فبعد أن كان المتابعون والدبلوماسيون والأكاديميون ينتظرون من القمم السابقة ظهور سياسات تؤثر في العالم أجمع من خلال تأثيرها بأقوى عشرين اقتصاد في العالم، حوّل ترامب قمة هامبورغ إلى سيرك كاد يغطي على التظاهرات التقليدية لمناهضي العولمة الذين يلاحقون بلا كلل القمم بالاحتجاج من مدينة إلى أخرى. بفضل ترامب صار الحديث عمن يصافح من ومن يتجاهل من، ومن يمثل من. وصب ترامب المزيد من نار تلفزيون الواقع، الذي جاء منه إلى الشهرة، على وقائع القمة فكلف ابنته غير المنتخبة وغير المزكّاة من أحد إيفانكا، لتمثيل أميركا بدلاً عنه لبعض الوقت وتجلس على طاولة الرؤساء. وفي الموضوع الأكثر ترقباً، لقائه ببوتين، لم يكن أقل اثارة، اقتصار اللقاء عليه وعلى وزير خارجيته ريكس تيلرسون (الحاصل على أعلى وسام روسي من بوتين نفسه) وعلى نظيريهما الروسيين، وتجاوز اللقاء الذي كان مقرراً لمدة 35 دقيقة الساعتين و16 دقيقة.
وكأن الشكل وحده لا يكفي، قفز ترامب عبر تويتر إلى المضمون فأعلن أنه قبل تأكيدات بوتين بأن موسكو لم تتدخل في الانتخابات الأميركية، ليتحول ذلك إلى عاصفة احتجاج في واشنطن بعدما أردف في تغريدة ثانية انه اتفق مع بوتين بعد بحث على انشاء وحدة مشتركة للأمن الإلكتروني لمنع القرصنة الانتخابية. كما سارع إلى الإعلان عن اتفاق لوقف إطلاق النار في أجزاء من سوريا تبين أنه لم ينجز بعد، ليعتبره مقدمة للسير قدماً في العمل لعلاقة بناءة مع روسيا. كما أعلن في الموضوع الروسي انه لم يناقش مع بوتين ملف العقوبات المفروضة على موسكو الا أن وزير خارجيته الذي كان حاضراً في الاجتماع ادلى بمعلومات مخالفة لذلك.
وبما يوحي بمقولة كاد المريب أن يقول خذوني، غرد ترامب مثيراً قضية غير متداولة تتعلق بالملف الانتخابي والتدخل الروسي متسائلاً عن سبب تمنع اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي 13 مرة عن تسليم محرك البحث التابع لها لمكتب التحقيق الفدرالي ووكالة المخابرات المركزية اثناء الانتخابات وعن سبب عدم قيام أوباما بأي شيء لذلك، كما جدد هجومه على مدير الـ«أف بي آي» المقال جيمس كومي معتبراً تسريباته للصحافة جريمة يعاقب عليها القانون.
اولى تغريدات ترامب بعد عودته إلى أميركا كانت عن تكليف ابنته بالنيابة عنه في القمة. في التغريدة الأولى اعتبر أن الأمر نموذجي جداً وأن أنغيلا ميركل (التي اكتفي بالحرف الأول من اسم عائلتها)، توافق. وفي تغريدة ثانية قال لو أن هيلاري كلنتون سألت ابنتها تشيلسي (التي تحمل شهادة دكتوراه في العلاقات الدولية) أن تحل محلها بينما هي تفرّط بالأمة لكانت «الأخبار الكاذبة (وهو اللقب الذي يطلقه على الصحافة) قالت نعم لتشيلسي للرئاسة». وحرصت تشيلسي في ردها على ترامب على القول إنه لا يمكن أن تكون في موقع يسمح لها بالحلول مكان والدتها، وسألته «سيدي الرئيس هل كنت أنت تفرط بأمتنا؟ لا أتمنى ذلك».
ولم تقف مفاعيل مواقف ترامب عند ذلك الحد، فبعد أن أوعز إلى رموز إدارته للإدلاء بتصريحات ومقابلات تمتدح اتفاقه مع بوتين على إنشاء الوحدة الإلكترونية، وهو ما اعتبره وزير الخزانة ستيف منوتشين في مقابلة مع شبكة «أي بي سي» إنجازاً باهراً لترامب، تراجع البيت الأبيض بعد تصريحات غاضبة لزعماء الحزب الجمهوري في الكونغرس الذين سخروا من الفكرة وبلغ الأمر بالسناتور الجمهوري النافذ ليندسي غراهام أن قال إن لم تكن هذه أغبى فكرة على الاطلاق فإنها بلا شك قريبة جداً من ذلك. وقالت المتحدثة الرئاسية هاكابي ساندرز في الايجاز الصحفي اليومي الاثنين الماضي، أن الفكرة نوقشت إلا أنها بعيدة المنال. وكان ترامب مهد لذلك التراجع بالقول إن الفكرة لن تحصل ابداً.
هكذا بعد أقل من نصف عام بأيام قليلة، على حلوله في البيت الأبيض ليس في جعبة ترامب من الإنجازات المحققة خارجياً سوى الغنيمة الموصوفة التي حصل عليها في الرياض، وتمثلت في عقود تسليح وتبادل تجاري بقيمة 410 مليارات دولار. اما الغزل الذي ساد بعد لقائه مع الرئيس الصيني تشي جينبينغ في اول الربيع، فتبخر على وهج التصعيد الكوري الشمالي، بينما وجدت الصين نفسها في قمة العشرين موئلاً للباحثين عن أجوبة عن المستقبل القريب. اما اللعبة المفضلة لترامب فلا تزال في القارة الأميركية حيث يحاول وأد العلاقة الوليدة مع كوبا إرضاءً للدوائر الاستخبارية التي لا تزال تعشش بين المهاجرين المعارضين لنظام الأخوين كاسترو، وينفخ في رماد التصعيد مع المكسيك تحت عنوان بناء الجدار الذي يريد منه الآن أن يكون مصدراً للطاقة البديلة.
باختصار، لا سياسة خارجية ولا عقيدة ولا مبدأ. ترامب مصر على عشوائيته ولا يجد حافزاً أو منشطاً أفضل من معاركه المباغتة على تويتر وهجماته المتكررة على أجهزة الاستخبارات مجتمعة وعلى كل الصحافة المستقلة.
Leave a Reply