لا يمكن حصر انفجار الوضع الأمني في كافة المناطق اللبنانية ضمن إطار حادث محدود يمكن احتواؤه موضعيا، ذلك أن انفلات الأزمة (وما سبقها من زيارات مكوكية أميركية وغربية وسحب للرعايا الخليجيين) يوحي بوضوح أن الموضوع أكبر من أن تستوعبه الآليات السياسية المحلية المعتمدة عادة، وأن المعالجة تتطلب حلولا جذرية تطال أكثر من ملف على الصعد السياسية والامنية والاجتماعية والمعيشية، لا في طرابلس وحدها، بل على امتداد الوطن، بعد أن بدأت تلوح في الأفق بوادر فوضى في أكثر من مدينة ومنطقة على خلفيات متعددة.
خارطة وضعتها مؤسسة »استراتفور« الامنية الاميركية لطرق تهريب السلاح من لبنان الى سوريا. وتبدو طرق التهريب الرئيسية من طرابلس الى حمص مروراً بعكار، ومن بيروت الى ريف دمشق مروراً بالبقاع الأوسط، ومن بيروت الى حمص مروراً بمنطقة عرسال والقاع في شمالي محافظة البقاع. |
من هنا، جاءت دعوة رئيس المجلس النيابي نبيه بري لعقد طاولة حوار، دعمها بقوة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، لتعكس حجم الخطر الذي يحدق بالوطن الصغير، في ظل انهماك السياسيين بالتجاذبات والمهاترات.
ولعلّ العامل الأخطر في الأحداث المتلاحقة ليس الحديث عن حجم حضور تنظيم “القاعدة” والتيارات المتطرفة في لبنان، بل في الخطاب المذهبي المرتفع الذي علا في العلن واضعا ما يحدث في سياق “حرب الفرس على الطائفة السنية”، كما في حالة توقيف شادي المولوي على يد جهاز الأمن الذي يترأسه مدير عام ينتمي لمذهب معين.
وعلى وقع الاشتباكات على أكثر من محور والاحداث المتنقلة، عانت الحكومة ارتباكا في الأداء نتيجة تداخل مشاعر الخوف من الصوت الانتخابي الطرابلسي وعدم القدرة على تلمس تداعيات الامور، فشهدت تصريحات الوزراء تناقضا ما بين تأكيد ونفي لتواجد تنظيم “القاعدة” في لبنان، كما انقسمت الآراء حول آلية معالجة الازمة ما بين داعٍ للين والتراجع وبين متشدد ومُصّرٍ على الضرب بيد من حديد. امام هذا الواقع، وجد رئيس الوزراء نجيب ميقاتي نفسه المستهدف الأكبر: اشارات على أن “قوى 8 آذار” ترغب في إخضاعه، وشماتة علنية من قبل “قوى 14 آذار” بالتزامن مع حملات تشكك في قدرة الحكومة ورئيسها على ممارسة السلطة التنفيذية.
وعلى الرغم من انتشار الجيش في أكثر من نقطة ساخنة، بقي الوضع الأمني متأرجحا بانتظار حل سياسي زادت من صعوباته عملية خطف الزوار الشيعة في سوريا على يد جماعة “غير دينية” واستشهاد ثلاث زائرات غرب العاصمة العراقية بغداد في انفجار عبوة استهدفت حملة لبنانية. ولولا تدخل امين عام “حزب الله” السيد حسن نصرالله لضبط الشارع لتدهورت الامور ووصلت حدا لا يحمد عقباه بعد قيام مئات المواطنين في الضاحية الجنوبية بقطع طرقات واحراق دواليب احتجاجا على عملية خطف الزوار في سوريا.
ولم يكد اللبنانيون يلتقطون أنفاسهم بعد اخلاء سبيل شادي المولوي من مكتب وزير المال محمد الصفدي، حيث تم القاء القبض عليه أول، حتى تداعت الاحداث الأمنية بشكل خطير: قنابل وقذائف انيرغا شمالا، اشكالات طلابية جامعية في العاصمة، اشتبكات مسلحة وسط بيروت على خلفية قضية اخلاقية (تبين أن المتورط فيها احد الموقوفين السابقين في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري).
واللافت أن اخلاء سبيل المولوي جاء بعد معلومات سربتها مصادر قضائية تفيد بأنه اعترف في التحقيق الأولي معه بأنه يمتلك شيفرة “القاعدة” التي لا يملكها عادة الا من كان منتميا وموثوقا به في هذا التنظيم الارهابي الدولي.
وسبق هذا كله مشهد شديد الدلالات في الطريق الجديدة حيث قام مناصرو “تيار المستقبل” بإخراج شاكر البرجاوي أحد رموز المنطقة ورئيس “التيار العربي” بقوة النيران بعد أن افرغوا في مكتبه ما يزيد على عشرين الف طلقة في ليلة دموية سقط خلالها العديد من القتلى والجرحى وتركت المراقبين حيرى لناحية الهدف من العملية وحجم الذخيرة المستخدمة، ليخرج بعدها شاكر البرجاوي مؤكدا انه سيعود الى الطريق الجديدة رافضا في الوقت نفسه زج اسم “حزب الله” في القضية، بعد ان صدر في الإعلام انباء غير مستندة الى مصادر موثوقة تفيد بأن الحزب قام بتهريب البرجاوي من المنطقة. في هذا الوقت، توعد العميد مصطفى حمدان بأخذ حق أهل بيروت من “بيت الوسط” مباشرة بعد حادثة الطريق الجديدة.
مع الإشارة الى أنه بينما كانت الطريق الجديدة في العاصمة تلملم آثار الاشتباكات، شيّعت عكار الشيخ احمد عبد الواحد ورفيقه الشيخ محمد المرعب في مأتم شعبي تخلله ظهور مئات المسلحين المقنعين وإطلاق رصاص في الهواء وخطب هاجمت النظام السوري والحكومة اللبنانية.
وأرخت الاحداث بثقلها على الاشكالات الفردية اليومية، فصار استخدام السلاح امر مستسهلا كما في جريمة قتل راح ضحيتها مواطنان في منطقة الدورة نتيجة خلاف على مبلغ 47 دولاراً اميركياً.
في خضم كل هذه الفوضى، انشق الشارع ما بين منتقد للجيش اللبناني، وتحديدا في منطقة الشمال، وما بين مدافعين عنه. وما بين الطرفين، كان الجيش يصدر البيانات الداعية الى عدم اجراء أي وقفات تضامنية معه، لمحاولة درء تحوله الى قضية سجالية خطيرة، خاصة وأن الواضح أن هناك قرار اقليمي بإخراج المؤسسة العسكرية من منطقة الشمال بهدف انشاء منطقة عازلة تتيح قاعدة لوجيستية لحركة الجيش السوري الحر. وعلى الرغم من نفي العديد من السياسيين لهذا الامر، الا ان العديد من المؤشرات والمواقف الدولية اكدت هذا المعنى، في حين كانت مؤسسة “استراتفور” الاستخبارية الأميركية واضحة في اصدارها تقريرا مفصلا عن احداث شمال لبنان وأرفقته بخارطة تظهر طرق تهريب السلاح من لبنان الى سوريا وتؤكد وجود نية سعودية لدعم التيار السلفي في لبنان.
الوضع الامني استدعى نقل اجتماع مجلس الوزراء من السرايا الحكومية الى القصر الجمهوري. وقد شهدت الجلسة عمليا بندا واحدا هو الملف الأمني. وتخلل الاجتماع سجالات عالية النبرة خاصة ما بين وزراء “التيار الوطني الحر” و”جبهة النضال الوطني”.
وقد طالب وزراء “التيار الوطني” بتطبيق المادة الرابعة من قانون الدفاع وبالتالي تكليف الجيش بالانتشار في عكار وضبط الأمن في حين رفض وزراء “جبهة النضال الوطني” بشدة هذا الطرح.
ورفض وزراء “أمل” و”حزب الله” و”التيار الوطني الحر” الحملة على الجيش والتعرض له، مطالبين بدعم إجراءاته في كل المناطق من أجل الحفاظ على السلم الأهلي.
واستغرب وزراء “التيار” تكريم شادي المولوي بعد إطلاق سراحه، والتعامل معه كأنه بطل، “علما انه متورط بالحد الادنى بتهريب السلاح الى سوريا”، منبهين الى ان طريقة التصرف معه تشجع الناس على ان يحذوا حذوه حتى يصبحوا ابطالا.
وفي سياق متصل، كان لافتا للانتباه الاجتماع الامني الموسع الذي عقد في مكتب قائد الجيش العماد جان قهوجي في اليرزة، في غياب أي حضور سياسي رسمي، وبمشاركة كل قادة الاجهزة الامنية الذين توافقوا على اتخاذ سلسلة من الاجراءات المشتركة لطمأنة المواطنين الى أمنهم واستقرارهم في مختلف المناطق.
في هذه الأثناء، كان النائب وليد جنبلاط يواكب الحركة الدبلوماسية السعودية التي أعربت عبر الملك مباشرة بخشيتها على الطائفة السنية في لبنان، فاعتبر جنبلاط ان مضمون برقية الملك عبد الله الى الرئيس ميشال سليمان “مفيد جدا”.
امام هذا المشهد القاتم على الصعيد الامني والسياسي، يتلمس المراقبون خطرا غير اعتيادي، لاسيما وأن التطورات على جبهة الملف النووي الايراني والعجز في تحقيق اختراق في الملف السوري قد أعاد الاهتمام الدولي الى لبنان، بينما ترتب اسرائيل أمرها بشكل استثنائي بعد أن شكلت حكومة وحدة تاريخية.
Leave a Reply