محمد العزير
نشر الزميل الصديق عباس الحاج أحمد على صفحته في الفيسبوك، قبل المعمعة الانتخابية الأخيرة، مقالة منقولة عن موقع الكتروني بعنوان «كم بقي للغة العربية حتى تنقرض؟».
تنتقد المقالة علاقة الجيل الجديد باللغة. تنتقل بسرعة متهورة من مقاربة جدية لمآلات العربية إلى شيء من التهريج والسخرية من لغة المخاطبة المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي فيخرج القارئ محتاراً حول ما إذا كانت تلك العجالة الموقّعة باسم «لورانس الخشاشبة» في موقع «الحدود»، جادة أو هزلية وما إذا كان كاتبها يبغي التنكيت والجعدنة أكثر مما يتوخى الجد والحل في موضوع له حساسيته الكبيرة.
دفعني الفضول الصحفي بعد قراءة النص الملتبس إلى زيارة مواقع التواصل بعيداً عن شرنقة الأصدقاء على صفحتي، وكانت الخطوة التالية الخوض في عباب «تويتر» حيث النصوص والفيديوهات والحسابات العربية تسرح وتمرح بلا حسيب ولا رقيب. وفيما كنت أبحث عن اللغة واستخداماتها اكتشفت أن جلّ المساهمات العربية على هذه الشبكة، دينية أو ذات أهداف دينية، وهالني أن نقطة الارتكاز في جل المداخلات، خصوصاً المواقع التي تحمل أسماء دينية صريحة، هي الجنس، وإن أكثر موضوع يشغل بال المؤمنين هو دبر المرأة وهل هو حلال أم حرام أم مكروه، وما موقف الدين من الجنس الفموي للرجال والنساء، وتأتي الإجابات بلا مصدر ولا مرجع متناقضة حسب أهواء الناشر بين حلال وحرام ومستحب ومكروه.
يحتل المرتبة الثانية، بعد الجنس وفقهه، الانشغال بيوم القيامة. هو ليس انشغالاً دينياً محضاً، لكن من باب التشويق الوطني والقومي مرتبط بقضية مصيرية ومهمة وهي زوال إسرائيل من الوجود وبداية نهاية الإمبراطورية الأميركية. لا يشك المتابع لهذه الصفحات وهي غزيرة جداً إن كان مؤمناً بما تقول، في أن إسرائيل ستزول في أيار (مايو) 2022 الموافق لشهر ذي القعدة 1443 بالتقويم الهجري أو في أبعد حد في أيار 2023 الموافق لشهر شوال 1444 هجري. يتسابق رجال دين ومتدينون وبعض أصحاب صفحات الأبراج والاستشارات العاطفية والغرامية على تأكيد أن دولة إسرائيل ستزول السنة المقبلة. لا يهمهم كيف ولماذا، المهم التوقيت والتوقيت آت لا ريب فيه، وعلى طريقة القس البروتستانتي الأميركي المشهور هارولد كامبينغ، الذي حدد نهاية العالم في الحادي عشر من تشرين الأول 2011، وعاش بعدها سنتين دون أن تتحقق نبوءته الكاذبة، يتبارى الخاطفون لدين الرحمة في تأكيد نبوءاتهم بألاعيب رقمية وآيات قرآنية ملتبسة وخزعبلات لفظية.
تأتي في رأس قائمة الأدلة على القيامة الوشيكة الكوارث الطبيعية المتزايدة من حرائق وأعاصير وزلازل وبراكين وسيول وأمطار غزيرة. وكأن منجمي الدين يعيشون على كوكب آخر ولم يعرفوا بعد، بمؤثرات الاحتباس الحراري وحجم الضرر الذي ألحقه البشر بالأرض وطبيعتها، يبنون على أخبار الكوارث نظريات يربطونها بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وسرديات ما أنزل الله بها من سلطان. يؤكد العديد من مستعجلي القيامة أن «لكع بن لكع» الذي حذر منه نبي الإسلام، محمد، قد ظهر، وعلى الرغم من الاختلاف في شخصية السيد «لكع» وهل هو شخص بعينه أم انه رمز لشريحة من الناس تعتاش على الحرام والسرقة والتفاهة، فلا خلاف على أنه ظهر وهو من العلامات الكبرى لقيام الساعة. يأتيكم بعدها اكتشاف النساء؛ سترون النساء في الأسواق وعلى الطرقات «كاسيات عاريات». سيكون لكم نصيب في رؤية الأعور الدجّال، وستشهدون الظلم والرشاوى وشيوع الفاحشة. كأن هؤلاء المنجمين لم يسمعوا بيزيد بن معاوية الذي قتل حفيد رسول الله، ولم يسمعوا بمروان بن الحكم الذي قتل عبدالله بن الزبير حواري مؤسس الإسلام، النبي محمد، ولم يقرأوا تاريخ العباسيين والبويهين والسلاجقة والمماليك والغلمان والجواري الحسان وصولاً إلى بني عثمان الذين كان سلاطينهم يقتلون إخوتهم وأولادهم ويسملون عيون أحفادهم لضمان الخلافة لمن يريدون… هل بعد ذلك من موبقات يمكن أن يقبلها العصر الحديث؟
يجادل شيخ ملتحٍ ويقابله داعية حفّ شاربه وترك لحيته، ويزكيهما متحدث لبق في استديو فخم ونساء محجبات أو سافرات في أن الساعة آتية لا ريب فيها وهي قريبة، مسألة أشهر لا أكثر. يشارعون ويقارعون ويمتّرون لساعات في زبد ليس منه نفع بأن علامات الساعة الكبرى أوشكت على النفاد وأن علينا أن نتزود لآخرتنا القريبة حيث سيعود السيد المسيح ليقتل الأعور الدجّال ويمهد مع الخضر لظهور الإمام المهدي. هنا يدب الخلاف حول شخصية المهدي. هل هو إمام الشيعة الثاني عشر ابن الإمام الحسن العسكري؟ أم أنه المهدي الأقل حصرية ما دام يشبه النبي العربي محمد، واسمه يطابق اسمه؟ يزول الخلاف تلقائياً عندما تقتنع بأن الدنيا انتهت أو على وشك، وأنك لم تعمل لآخرتك كما يجب.
ثم بعد حتميات الشيخ بسّام جرار الذي بدأ مسيرته العامة مناصباً العداء لليسار والحركات التقدمية باسم الدين: حتى لو كانت تناضل ضد الاحتلال الذي عيش تحت ظله الكريه، يأتيك الشيخ محمد حسان بتأكيد مليون وستمئة ألف متابع له على حسابه الاجتماعي ومعه الدكتور الشيخ محمود المصري ليحسما بشكل قاطع صحة نبوءة الرسول العربي محمد في حديث منسوب إليه بأن شرط ظهور المسيح الدجال هو جفاف بحيرة طبرية في الجليل، وأن انخفاض مستوى المياه فيها مؤكد ويعني اقتراب الساعة. لم يكلف المشايخ، المصرون على الرتب العلمية التي لا يعلم إلا الله مصدرها ومادتها البحثية، أنفسهم عناء البحث في الإنترنت التي يقيمون فيها ويبنون على شبكاتها أمجادهم ليعرفوا أن انخفاض وارتفاع مستوى مياه البحيرة يمر في دورات متعاقبة وفق مواسم الجفاف أو التساقط، وأنها الآن تحت رعاية الاحتلال الإسرائيلي الذي يضمن بتقنيات الضخ منها وإليها ألا تشح ولا تفيض. هم مصرون على أن الأعور الدجال سيظهر هناك قريباً.
في عالم متقدم تقنياً وصناعياً وعلمياً كيف لهذه الغيبيات أن تشيع وأن تجد مئات آلاف المتابعين؟ بالمناسبة هذه ليست ظاهرة تقتصر على العرب والمسلمين. في أميركا رائدة العلم والتقنيات، فهناك الملايين الذين ينفقون كل ما ادخروه طوال حياتهم لاكتساب جنة الله الموعودة على يد أفاقين نصابين يعيشون حياة ترف ومجون من ريع كنائسهم الكبيرة، كما كانت الحال في عصور الظلام الأوروبية حين كانت الكنيسة تبيع عقارات الجنة بأموال البائسين. غير إن الفارق بين المجتمع العربي والمجتمع الغربي، خصوصاً الأميركي الأكثر تديناً، أنه في حالتنا هو القاعدة أما في الحالة الأميركية فهو الاستثناء.
Leave a Reply