وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن» – أجواء التفاؤل التي سادت خلال الأيام القليلة الماضية عادت لتنحسر سريعاً وتطغى عليها التجاذبات السياسية حول تشكيل حكومة جديدة يعلق عليها اللبنانيون آمالهم لاستنقاذ ما تبقى من هيكلية الدولة والاقتصاد المتهالك…
التفاؤل، بدّدته حركة الشارع الاعتراضية، والتي تمثل انعكاساً لما يدور في كواليس السياسة.. فقد شهد «الشارع السني» سلسلة تحركات تشي برفض قاطع لما يُطبخ على جبهة المشاورات الدائرة لتأليف الحكومة العتيدة، علماً بأن رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري كان قد أعلن شفوياً موافقته على ترشيح سمير الخطيب لرئاسة الحكومة، لكن تلك الموافقة الملتبسة وغير المباشرة، لم تكن كافية للجم اندفاعة المعترضين من مناصريه عن النزول إلى الشارع وقطع الطرقات وإطلاق الهتافات المنددة بالخطيب، والداعية إلى سحب اسمه من التداول، وصولاً إلى الاشتباك مع الجيش، كما حصل في بعض المناطق.
ملتبسة هي تلك الموافقة لعدة أسباب، منها أنها كانت مغلّفة عديدة كثيرة، فضلاً عن أن الحريري رفض إعلانها في بيان رسمي يتبنّى فيه ترشيح الرجل، مكتفياً بإعلان موافقته خلال دردشة مع بعض الصحافيين، الأمر الذي أعطى انطباعاً بعدم الثقة لدى جمهوره، فعادوا إلى لعبة الشارع وقطع الطرق.
الاثنين موعد الاستشارات
إذن، ورغم تحديد موعد الاستشارات النيابية الملزمة يوم الاثنين المقبل، لم تؤدِّ الاجتماعات المتلاحقة بين الأطراف غرضها بعد، والاتصالات لم تؤتِ أكلها، ربما في انتظار شيء ما على خط التسويات الإقليمية، فالقاصي والداني يعلم أنه لطالما كان لبنان ساحة انعكاس لأحداث المنطقة، وسوقاً للمقايضة بين الدول الكبرى المعنية بشؤونها.
يقول المتابعون لمجريات التأليف إنه كلما طرح الحريري شرطاً واستُجيب له، طرح المزيد من الشروط.
شروط تدرّج الحريري في طلبها على نحو تصاعدي، مستغلاً تمسك الفريق الآخر المتمثل بـ«الثنائي الشيعي» و«التيار الوطني الحر» بوجوده على رأس الحكومة، لما يرون فيه من ضمانة لاستمرارية الحكم وعلاج للأزمة الاقتصادية وتفاد لأي توتر مذهبي، لما يملكه من رصيد معنوي وسياسي على الساحتين المحلية الدولية.
أبرز شروط الحريري وأهمها الحفاظ على الحريرية السياسية وعدم إعادة النازحين السوريين وعدم المس بحاكم مصرف لبنان وبمحمد الحوت مديراً عاماً لطيران الشرق الأوسط وبقائد الجيش، على ألّا تتعدى مدة الحكومة المقبلة ستة أشهر.
الحريري يبتغي من وراء مطالبه هذه إحكام قبضته على مفاصل البلاد الاقتصادية بعد أن أمسك بها من الناحية السياسية وهو على رأس السلطة التنفيذية.
آخر الدواء الكيّ: حكومة أكثرية
وعن مآل الأمور وسط هذه الأجواء الملبّدة، يعتقد الباحث السياسي والكاتب الدكتور وفيق إبراهيم، أن الأمور تتجه نحو تأليف حكومة أكثرية وهي قانونية دستورية، معتبراً أن سقوط اسم الخطيب يعني شيئاً واحداً، وهو أن الحريري لا يريد حكومة، بإيعاز سعودي أميركي، بهدف المزيد من الضغط على «حزب الله» تحديداً.
ولكن أقصى ما يمكن أن ينتجه هذا الضغط هو أزمة اقتصادية خانقة، يعتبر الدكتور ابراهيم أن اللبنانيين يعيشونها فعلاً لكنها قد تشتد قليلاً، مستدركاً بأن تشكيل حكومة أكثرية تسارع إلى فتح الطريق نحو سوريا والعراق والأردن ستسهم في سد جزء لا بأس به من الأزمة الاقتصادية، لكن خطوة من هذا النوع لن تظهر مفاعيلها سريعاً، علماً بأن حكومة أكثرية –إن ولدت– ستكون عرضة لضغوط كبيرة سواء محلياً أو دولياً.
لكن قد لا تجد الأكثرية بُداً من هذا الخيار، إذ لا يمكن ترك البلاد تسير نحو الهاوية من دون سلطة تنفيذية، ولا بد من محاولة إنقاذية جدية من دون تسويف أو مماطلة.
وحول انعكاسات خيار السير في حكومة أكثرية، يتوقع الدكتور ابراهيم اقتصار الأمر على حصول بعض التوترات الأمنية التي لن تصل إلى حد اندلاع حرب أهلية، وأن هذه الحكومة فيما لو تم تأليفها، ستكون مغطاة بطرفين قويين إن لم نقل هما الأقوى على الساحة اللبنانية: «الثنائي الشيعي» و«التيار الوطني الحر»، إضافة إلى شريحة لا بأس بها من الساحتين السنية والدرزية، أي أنها تمتلك غطاء وطنياً يشمل كل الطوائف. وعن الحاجة إلى تقديم المزيد من التنازلات لإخراج البلاد مما هي فيه، يقول ابراهيم إنه مهما بلغ حجم التنازلات التي يمكن أن يقدمها «حزب الله» وحلفاؤه، وهو قد قام بذلك فعلاً، فإن الطرف الآخر لن يقبل، وسيستمر في العرقلة، لأنه –أي الطرف الآخر– يسير وفق مشروع أميركي وإقليمي، والمطلوب، بحسب الدكتور إبراهيم، هو رأس «حزب الله» كمؤسسة فاعلة في لبنان والإقليم، وإعادة لبنان إلى العباءة الأميركية.
وحول ما نُقل من كلام عن لسان وزير الخارجية جبران باسيل لجهة إبلاغ نواب «تكتل لبنان القوي» الذي يترأسه، بأن البلاد مقبلة على انهيار اقتصادي شامل وانفجار أمني كبير، في حال عدم تأليف الحكومة خلال الأيام القليلة المقبلة، يقرأ الدكتور ابراهيم هذا الكلام على أنه محاولة إضافية من الوزير باسيل للدفع باتجاه تسريع تأليف الحكومة، وهو الذي كان قد وافق على عدم مشاركته فيها تحت إصرار الرئيس المستقيل سعد الحريري.
أميركا .. وتعويض الخسائر
وعن التزامن الحاصل بين ما يجري في العراق ولبنان وحتى ما جرى في إيران، يربط الدكتور إبراهيم كل ذلك بمعطى أساسي واستراتيجي، وهو تراجع النفوذ الأميركي في الشرق الذهبي –أي الشرق الأوسط– فالولايات المتحدة بخسارتها مع حلفائها، المعركة في سوريا، هي في الواقع خسرت معركة الشرق الأوسط، فسوريا هي نقطة الارتكاز والمحور الأساس للدول المحيطة بها: تركيا وإيران والسعودية والعراق والأردن. لذلك، استغلت الولايات المتحدة الأزمات الخانقة التي يعاني منها لبنان والعراق ودخلت من نافذتيهما، عبر اختراق الحركات الاحتجاجية، من خلال أدوات محلية تابعة لها ولحلفائها، وقد استطاعت تحريكها وإدارتها وفق إبراهيم.
يتحدث إبراهيم أيضاً عن ارتباط عضوي بين ما يدور في كواليس المفاوضات التي تقودها سلطنة عُمان بين واشنطن وطهران مع كل ما يحصل في الإقليم، مشدداً على أن الولايات المتحدة استنفدت ورقة العقوبات، ووصلت إلى حائط مسدود في إمكانية إخضاع إيران، لذلك لا بد لها من التفاوض، والتوصل على الأقل إلى ما يشبه الهدنة، وبالتالي فإن ملامح أية تسوية أو حتى هدنة، قد تهب نسائمها، لا بد وأن تترك أثرها على كل أزمات المنطقة، من اليمن إلى العراق مروراً بسوريا ووصولاً إلى لبنان.
«الكيان اللبناني» في خطر
يرى إبراهيم، أن المراجعة السياسية الشاملة باتت أمراً ملحّاً لا بد منه، كأن يدعو الرئيس ميشال عون إلى طائف جديد أو حتى مؤتمر تأسيسي، ففكرة وجود الكيان اللبناني من أساسها باتت على المحك، وسط هذا الانقسام العمودي والخلاف الجوهري على المبادئ بين أبنائه.
مخاوف حقيقية يتحدث عنها إبراهيم، مستذكراً مقولة كيسنجر الشهيرة عن أن وجود لبنان كان خطأ تاريخياً، ومقولة ساركوزي، حين كان في سدة الرئاسة الفرنسية، يوم خاطب البطريرك الماروني بشارة الراعي بالقول: أنتم مسيحيو لبنان والشرق مكانكم في الغرب.
آخر التسريبات عن التشكيلة الحكومية
في آخر ما رشح عن دوائر القصر الجمهوري، تحدثت مصادر مطلعة لــ«صدى الوطن»، وبخلاف ما تتداوله وسائل الإعلام، بارتياح عن أن اسم سمير الخطيب ما زال الأقوى، وأن اللمسات الأخيرة تُوضع على التشكيلة الحكومية التكنوسياسية، والتي رست على أربعة وعشرين وزيراً، بينهم ستة وزراء دولة من السياسيين، وثمانية عشر وزيراً من التكنوقراط و«الحراك».
المصادر نفسها تؤكد أن تأجيل الاستشارات النيابية حتى الاثنين المقبل، رغم كل الانتقادات، الهدف منه الاتفاق الشامل على تشكيلة الحكومة بكل تفاصيلها، وتجاوز أية عراقيل يمكن أن تؤخر ولادتها. ثمة أخبار أيضاً عن تمسك «التيار الوطني الحر» بوزارتي الداخلية والطاقة، فيما يتمسك الرئيس الحريري هو أيضاً بوزارتي الداخلية والاتصالات…
إذن، يوم الإثنين المقبل، مئة وعشرون نائباً مدعوون إلى استشارات ملزمة لتسمية رئيس حكومة جديد، يوافق عليه رئيس الجمهورية، الذي بدوره يستدعي رئيس المجلس النيابي ليطلعه على حصيلتها، ثم يُستدعى الرئيس المكلف، ويطل على اللبنانيين لاحقاً بكلمة يعلن فيها برنامجه.
وفي ضوء الوقائع الأخيرة، أيام حاسمة وحرجة يعيشها اللبنانيون مطلع الأسبوع المقبل، قد تحمل معها الكثير من التطورات. فإما انفراج مؤقت وتأليف حكومة، وإما عودة إلى المربع الأول، مع ما يعنيه ذلك من تدهور اقتصادي إضافي، يكاد يلامس حد الانهيار الذي سيطال البنية الاجتماعية والأمنية.
Leave a Reply