ابن سلمان يغازل طهران ويعود إلى دمشق .. ويحاول الخلاص من «فيتنام» اليمن
وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
شهد الموقف السعودي تغيراً دراماتيكياً تمثل في الموقف الذي أطلقه ولي العهد محمد بن سلمان في الثالث والعشرين من الشهر الماضي، وفاجأ به العالم: إيران دولة جارة، وكل ما نطمح إليه هو أن تكون لدينا علاقة طيبة ومميزة معها».
وأضاف: «لا نريد أن يكون وضع إيران صعباً، بل على العكس، نريد إيران مزدهرة وتنمو، لدينا مصالح فيها، وهي لديها مصالح في المملكة العربية السعودية، لدفع المنطقة والعالم نحو النمو والازدهار».
وفي إطار حديثه عن أسباب الخلاف مع طهران، قال ابن سلمان ما حرفيته: «إشكاليتنا هي في التصرفات السلبية التي تقوم بها إيران، سواء لجهة برنامجها النووي أو لدعمها «ميليشيات خارجة عن القانون» في بعض دول المنطقة أو في برنامج صواريخها الباليستية».
تغيير الخطاب
هذا الخطاب العقلاني الذي يشبه الغزل الخجول تجاه طهران، يأتي بعد أن كان التصعيد تجاه طهران قد بلغ ذروته سابقاً في محطات عديدة، فمن منا لا يذكر يوم شبّه ابن سلمان المرشد الإيراني بـ«هتلر»، مؤكداً عدم وجود أية نقطة التقاء مع الجمهورية الإسلامية، وواصفاً نظامها بالأيديولوجيا المتطرفة، رافضاً لقاء أي مسؤول إيراني، وتوّج مواقفه العدائية تجاه طهران بالتعهد –وبإصرار لافت– بنقل المعركة إلى داخلها في تهديد غير مسبوق.
طغى التفاؤل بتحسن العلاقة بين البلدين على خطاب ابن سلمان خلال المقابلة نفسها، تفاؤل بتجاوز المشاكل وبإقامة علاقة طيبة وإيجابية بينهما، فيها منفعة للجميع من خلال العمل مع الشركاء في المنطقة وفي العالم، على حد قول الأمير السعودي.
عقبت إيران بدورها إيجاباً على تصريحات ابن سلمان بالقول إن فصلاً جديداً من التعاون بين البلدين بدأ يلوح في الأفق وقال المتحدث باسم الخارجية الايرانية سعيد خطيب زادة إن طهران ترحب بتغير لهجة الرياض. وأضاف أنه في ظل النهج المرتكز على الحوار بإمكان هذين البلدين، المهمين في المنطقة والعالم الاسلامي، تجاوز الخلافات.
أسباب كثيرة تقف وراء هذا الانقلاب في موقف الرياض، لطالما تحدث عنها المراقبون، علماً أن كل واحد من تلك الأسباب التي سنأتي على تفصيلها لاحقاً، يُعَدُّ كافياً لفرملة اندفاعة «الأمير المتهور» بالنظر إلى ما تسببت به من أضرار لبلاده على مختلف المستويات، السياسية منها والاقتصادية وحتى الأمنية، لكن رغم كل الانتقادات التي كانت تُكال لسياسات المملكة التي أخذت منحى تصادمياً منذ وصول ابن سلمان إلى الحكم، استمر ولي العهد في سياسته الرعناء التي استعدى من خلالها غالبية الدول، ولا سيما حربه على اليمن، التي دخلت عامها السابع. فهذه الحرب التي أزهقت أرواح عشرات آلاف اليمنيين، ودمرت بناهم التحتية، وأدت إلى انهيار اقتصادهم وعملتهم الوطنية، تحولت إلى رمز معاصر للمعاناة الإنسانية بعدما وصفتها الأمم المتحدة بأنها أسوأ كارثة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية، وقد بلغت حد المجاعة وانتشار الأوبئة وفقاً لمنظمات الإغاثة العالمية ومندوبي الأمم المتحدة.
فييتنام السعودية
لكن الحرب على اليمن، في الوقت عينه، استنزفت طاقات المملكة السعودية على مختلف المستويات، فمئات المليارات أُهدرت لتمويل هذه الحرب، ما أدخل الرياض في عجز مالي لم تشهده من قبل، وهي الدولة الغنية التي لطالما موّلت الحروب خارج أراضيها واشترت ولاء دول ورؤساء بأموالها. لكن حرب اليمن أدخلتها في دوامة لا نهاية لها، وقد فقدت فيها الكثير من الضباط والجنود، كما انفرط عقد التحالف العسكري الذي نسجته الرياض ولم يبقَ معها في الميدان سوى بعض المرتزقة والإماراتيين الذين هم أيضاً تفلتوا من عقال التبعية للرياض، وباتوا يعملون وفقاً لمصالحهم على أرض اليمن.
كذلك، أصبح اسم السعودية مقترناً دولياً بالإجرام بسبب حجم المجازر التي ارتكبتها بحق الشعب اليمني، بأطفاله ونسائه وشيوخه، إضافة إلى الحصار المطبق الذي فرضته على اليمن، فأقفلت المطارات والموانئ، مانعة دخول وخروج أي شيء، حتى المواد الغذائية والمستلزمات الطبية والأدوية، وهو ما فاقم من الأزمة الإنسانية وتسبب بموت الآلاف.
إن الأسابيع القليلة التي تعهد ابن سلمان بحسم معركة خلالها، تحولت إلى سنوات طويلة لا أفق لنهايتها، بل على العكس من ذلك، انتقلت الحرب إلى داخل المدن السعودية، وأصبحت هدفاً شبه يومي لصواريخ اليمنيين وطائراتهم المسيّرة.
أما الضربات الاقتصادية التي تلقتها السعودية جراء الحرب الفاشلة، فهي متعددة، بدءاً من النزيف المالي لشراء الأسلحة، وليس انتهاء بالاستهداف المتكرر لأكبر شركة نفط سعودية «أرامكو» وإخراجها أكثر من مرة عن نطاق الخدمة، بعد إصابتها بأضرار جسيمة.
ولتخفيف وطأة هذه الأعباء الاقتصادية، فرضت السعودية في أيار (مايو) 2020 إجراءات تقشفية وصفتها بـ«المؤلمة» لمواجهة تبعات كورونا. كما رفعت السلطات السعودية، بدءا من شهر تموز (يوليو) من العام الفائت، ضريبة القيمة المضافة من 5 بالمئة إلى 15 بالمئة.
كل هذه المعطيات المتعلقة بحرب اليمن، والتي جعلت منها «فييتنام» جديدة بالنسبة إلى ابن سلمان، ومستنقعاً لم يعد بالإمكان البقاء فيه، وبما أن إيران هي الداعم الأول لـ«أنصار الله» بل هي مفتاح الحل، كان لا بد من مهادنتها وخطب ودها للخروج من ورطة اليمن.
رهانات فاشلة
الخروج من الأتون اليمني كان دافعاً قوياً وسبباً مهماً للانعطافة السعودية الحالية، لكنه لم يكن الوحيد.
مآزق ولي العهد تعددت في غير اتجاه. ففي لبنان، رمت السعودية بشخص ولي عهدها بكل ثقلها لعزل «حزب الله» وتقليم أظفاره وإخراجه من الحياة السياسية وصولاً إلى إنهائه، وبذلت في سبيل ذلك أموالاً طائلة، صرفتها على خصوم الحزب، وعوّمت شخصيات سياسية عفى عليها الزمن، وحاولت تشويه سمعة المقاومة، عبر ممارسة ضغوط متنوعة في مختلف الساحات التي يمكن أن تصل يدها إليها. فلم تتوانَ عن طرد عدد كبير من اللبنانيين من أراضيها بتهمة مناصرتهم ودعمهم «حزب الله»… وأخيراً أوقفت استيراد الخضروات والفواكه من لبنان، استكمالاً لسلسلة الضغوط الاقتصادية بحجة ضبط شحنة مخدرات مهربة.
لكن بغض النظر عن الضائقة الكبيرة التي يعيشها لبنان، إلا أنه أيضاً تحول إلى مسرح شاهد على فشل سياسات الرياض، وصفعة تُضاف إلى سلسلة الصفعات التي تلقّاها ابن سلمان. فـ«حزب الله» لم يضعف ولم يُعزل، بل ما زال اللاعب الأساسي إن لم نقل الأول على الساحة اللبنانية حيث يستطيع فرض المعادلات أو تعديلها، وفقاً لحساباته ورؤيته، وذلك باعتراف الخصوم قبل الأصدقاء.
في الشأن الخليجي، وبعد تزعم ابن سلمان فكرة حصار قطر بغية عزلها وإخضاعها هي الأخرى، استطاعت الدوحة الاستقلال عن محيطها الخليجي، وارتمت أكثر في أحضان ألد أعداء السعودية ومنافسيها: تركيا وإيران.
وفي نهاية المطاف، سجل فشل آخر لابن سلمان بعودة قطر إلى الحاضنة الخليجية بعد ثلاث سنوات ونصف من الحصار، ومن دون التزامها بتطبيق أي شرط من الشروط التي فرضت عليها مقابل فك الحصار.
انتكاسات
من جملة المآزق التي يعيشها ابن سلمان رهانه على علاقته بالرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، التي دعمها بإنفاق المليارات عبر صفقات غير مبررة سوى لإرضاء ترامب الذي لم يحفظ ماء وجه المملكة مطالباً إياها باستمرار دفع الأموال الطائلة مقابل حماية العرش السعودي، ويومذاك قابل ابن سلمان تلك الإهانة التي لم يحدث أن تلقاها مسؤول في موقعه من قبل، بابتسامته «البلهاء» الشهيرة.
لكن الأمور اختلفت اليوم مع وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض. فهناك مجموعة لا بأس بها من نواب الكونغرس تطالب بإلحاح بوقف تزويد المملكة بالسلاح في وقت تسعى فيه الإدارة الديمقراطية إلى إحياء الاتفاق النووي مع إيران.
إذ ترى إدارة بايدن أن التوصل إلى اتفاق ملزم مع طهران هو الحل الأمثل لأزمة الملف النووي الإيراني، على عكس سلفه دونالد ترامب الذي انسحب من الاتفاق النووي وكانت سياسته تقوم على ممارسة أقصى درجات الضغط على طهران.
وها هي «ليالي فيينا» تعود في جولات تفاوض تسير بإيقاع إيجابي لإحياء الاتفاق النووي، ما سيمثل حلقة جديدة في سلسلة الإخفاقات التي تعيشها الرياض، التي سعت بكل قوتها لعرقلة العودة العلنية إلى فيينا، معتبرة أنها لا تصب في مصلحة المنطقة ككل، بالنظر إلى ما تمثله إيران من خطر في حال امتلاكها السلاح النووي، بينما تتناسى الرياض ما تمتلكه «حليفتها الاستراتيجية المقبلة»، إسرائيل، من ترسانة نووية.
فتخلّص إيران من ضغوط عقوبات ترامب القصوى، سيعني المزيد من القوة والتمدد، وبالتالي تعاظم الكابوس الإيراني بالنسبة للسعودية التي تخشى أيضاً تحريك ملف انتهاكات حقوق الإنسان، وعلى رأسها قتل الصحافي جمال خاشقجي في السفارة السعودية في اسطنبول، وتحميل ابن سلمان المسؤولية المباشرة عن هذا الفعل الشنيع.
زمن التسويات
في أواخر نيسان (أبريل) الماضي، نشرت صحيفة «فايننشل تايمز» خبراً حول اجتماع، ضم مسؤولين من طهران والرياض، في العاصمة بغداد.
الخبر، نفاه البلدان، لكن تقارير لاحقة تسربت أكدت حدوث الاجتماع بل واجتماعات أخرى رفيعة المستوى، أحدها كان بين الجنرال اسماعيل قاآني، خليفة الفريق قاسم سليماني في قيادة الحرس الثوري الإيراني، ورئيس جهاز الاستخبارات السعودية.
فهل يكون ابن سلمان قد تعلم من أخطائه المتراكمة منذ توليه إدارة سياسة المملكة، فيتدارك الوقت لمحاولة إصلاح الكوارث التي ألحقها ببلاد المنطقة؟
الفشل المتراكم في مختلف الساحات التي حاولت الرياض إخضاعها، ينطبق أيضاً على سوريا، حيث دعمت السعودية الجهود الدولية لإسقاط دمشق لكن الأخيرة أصبحت اليوم وجهة جديدة لدبلوماسية المملكة تمهيداً لإعادة فتح سفارتها فيها بعد عيد الفطر القادم.
فهل يقود ولي العهد السعودي نظامه باتجاه صحوة سياسية في زمن التسويات بالمنطقة؟
Leave a Reply