من صحفي في «نيويورك تايمز» ببغداد .. إلى أستاذ محاضر في «جامعة نيويورك»
عباس الحاج أحمد
وقف الصحفي وأستاذ الدراسات الشرق أوسطية في «جامعة نيويورك» NYU، علي أديب النعيمي، مطولاً أمام لوحات معلقة على جدران مكاتب صحيفة «صدى الوطن» في ديربورن، مستذكراً محطات مفصلية مر بها وطنه الأم (العراق) ووطنه الجديد (الولايات المتحدة الأميركية).
بين نوستالجيا الماضي السياسي والاجتماعي في العراق والحاضر الأميركي المتغير، تنقل النعيمي في حديثه لـ«صدى الوطن» بين محطات بارزة في مسيرته المهنية التي قادته إلى التدريس في إحدى أرقى الجامعات العالمية، إلى جانب تجربته الصحفية الغنية والشاهدة على التغيرات الكبرى التي عاشها العراق بعد الغزو الأميركي.
في العراق، عمل النعيمي مع عدة وكالات أنباء أجنبية مثل BBC البريطانية وPBS الأميركية قبل أن ينضم إلى مكتب صحيفة «نيويورك تايمز» في بغداد (2004–2007). بعد ذلك انتقل الصحفي العراقي للعيش في الولايات المتحدة (ميشيغن)، حيث واصل تعليمه العالي وأصبح أستاذاً محاضراً بالإعلام واللغة العربية والدراسات الشرق أوسطية في «جامعة نيويورك»، مستنداً في عمله إلى «أسس علمية بحتة» لتنوير الطلاب المتعطشين لسبر أغوار الشرق الأوسط ومحاولة فهم ديناميكيته العشوائية.
في الحرم
يقول النعيمي إنه بالرغم من أن معظم الطلاب في الجامعات الأميركية يتبنون الفكر التقدمي الليبرالي، إلا أن الصوت «اليميني الأبيض» يعود بقوة إلى حرم الجامعات في ظل حكم الرئيس دونالد ترامب.
يروي الأستاذ الجامعي قصته مع أحد الطلاب الأميركيين الذي أخبره بأنه قرر دراسة اللغة العربية «ليحمي أميركا من العرب». «كان كلام الطالب مباشراً وصريحاً كأني أشاهد ترامب أمامي. خاصة في ما يتعلق بانتقاد الأقليات». وأضاف «منذ بداية عملي الجامعي حتى انتخاب الرئيس ترامب، لم أواجه حدية وكراهية وقسوة في الأفكار» مثلما يشهد اليوم، مشيراً إلى أن الطالب نفسه كتب مرة بأن «العرب يعتبرونه كافراً ومشركاً» مستعملاً مصطلح «الكراهية المقدسة».
ولفت النعيمي إلى أن الطالب بذل جهداً كبيراً ليعبر بالعربية عن مشاعره الحقيقية وانطباعه تجاه العرب. ولكنه أصبح منبوذاً بين أقرانه بسبب حديته… فجامعة نيويورك هي جامعة ليبرالية. والغالبية الساحقة من الطلاب يحملون فكراً ليبرالياً متحرراً، ويرفضون التفرقة العنصرية ويتقبلون الآخر»، مذكراً بطبيعة مدينة نيويورك «التي تحتضن مئات الجنسيات والألسن والإثنيات».
أجزاء لا تتجزأ
خلال جولته في مكاتب «صدى الوطن» توقف النعيمي عند لوحات تختصر محطات تاريخية عربية موثقة على الصفحات الأولى لأعداد سابقة من الصحيفة، كإعدام صدام حسين، ووفاة محمود درويش، وحرب الخليج ومجزرة قانا… واصفاً تلك العناوين بأنها «ذكريات مؤلمة» تشكل أجزاء لا تتجزأ من حياته.
يستذكر وفاة درويش التي تصادفت مع وجوده في أحد مقاهي ديربورن: «عند سماعنا للخبر تحركت لدينا نوستالجيا خاصة بذاكرتنا الجماعية»، لافتاً إلى أن درويش هو من الشخصيات التي تترك أثراً يشبه الخيط في نسيجك الداخلي.
لا ينسى النعيمي أيضاً مشهدية محاكمة الرئيس الأسبق صدام حسين أمام عينيه التي رصدت خفايا عراقية متعددة أثناء سنوات ما بعد الغزو قبل مغادرته إلى الولايات المتحدة.
«أذكر محاكمة صدام جيداً، فقد كانت جزءاً من عملي. يوم إعدامه كنت في السوق وبدأ إطلاق نار كثيف مع بداية ظهور شريط الإعدام على التلفزيون». «كان البلد ينزف على صوت الهتافات الطائفية، وكان الشريط بمثابة ملح يضاف على الجروح».
يستذكر النعيمي أيضاً مواجهة مع جندي أميركي خلال عمله بصحيفة «نيويورك تايمز» في العراق، والكثير من النقاشات مع زملائه الصحفيين حول ماهية الصورة التي تقدم للمواطن الأميركي عن العراق.
الإعلام في أميركا
يقول النعيمي إن ما يسبق البروباغاندا، هو الجهل ونقص المعلومات. لافتاً إلى أن «رأي الإنسان مرتبط بكم المعلومات التي يمتلكها. أما قيمة الرأي فمرتبطة بقيمة المعلومات ودقتها».
يضيف قائلاً: «بصراحة، أغلب الأميركيين ليس لديهم سوى انطباعات نمطية عن العرب أو يجهلون الكثير عنهم، ويُصاحب ذلك «بروباغاندا» معادية خصوصاً بعد صعود اليمين» مؤكداً أن شعبية وسائل الإعلام اليمينية المتطرفة كبرت في الآونة الأخيرة لارتباطها بسيد البيت الأبيض.
ويشير الأستاذ الجامعي إلى أن المنصات الإعلامية اليمينة تقوم بترويج تلك الصور النمطية المسيئة للعرب والمسلمين، «وفي المقابل، لا تتوفر لدينا وسائل إعلام عربية أميركية ممكن أن توازي تلك المنصات الضخمة بزخمها وإمكانياتها المادية»، مستدركاً بتوجيه «الشكر لجهود «صدى الوطن» وأمثالها… ففي خضم وسائل الإعلام الضخمة، لدينا على الأقل صوت ومحاولات أياً يكن حجمها».
العرب الأميركيون والإعلام
عندما دخل النعيمي برنامج ماجستير الإعلام في «جامعة نيويورك»، طُلب منه اختيار موضوع يتابعه طوال فترة الدراسة، فانكب زملاؤه على اختيار مواضيع مثل الرعاية الصحية أو الاقتصاد… «لكنني لكوني جديداً في أميركا اخترت موضوع العرب الأميركيين».
بعد أسابيع قليلة شعر النعيمي بندم شديد على اختياره لصعوبة التحدث مع عرب أميركيين في نيويورك حول مواضيع حساسة خلال تلك الفترة. «كان التردد رهيباً. رغم أنني عربي، وكنت أعرفهم بنفسي، إلا أن خوفهم كان كبيراً».
سأل طالب الماجستير مرةً، أحد العاملين في جمعية العرب الأميركيين في بروكلين، معبراً عن استيائه من امتناع العرب عن الحديث معه. «قلت له إنهم يشكون دائماً من أن الإعلام ينظر إليهم بصورة نمطية.. فكيف سنصحح النظرة وأنتم ترفضون مجرد الحديث أو المشاركة؟ فأجاب: «ليست لدينا ثقة في وسائل الإعلام. فحتى لو تحدثنا. سيُقتطع حديثنا أو يُحوّر».
بدا واضحاً بالنسبة للنعيمي أن انعدام الثقة بوسائل الإعلام متوارث لدى الأجيال العربية، وجاءت هجمات 11 سبتمبر ونظريات المؤامرة لتعزز هذا الموقف السلبي من الإعلام.
«لا أجيد الفارسية!»
انتقل الصحافي علي النعيمي إلى الولايات المتحدة بعد حصوله على الزمالة بمجال الصحافة في «جامعة ميشيغن–آناربر» شاكراً لمديره البريطاني في مكتب «نيويورك تايمز» ببغداد على هذه الفرصة للسفر إلى أميركا «أرض الفرص». شبّه تلك الخطوة بعنوان رئيسي تصدّر عدداً قديماً لـ«صدى الوطن» صدر عام 2007: «الدخول في المجهول».
في البداية عاش النعيمي صعوبات الانتقال من بلد مزقته الحروب المتواصلة، إلى بلد لم يشهد ناسه حرباً قط.
«من حسن حظي أن بدايتي كانت في ميشيغن. ساعدني ذلك على التأقلم. خصوصاً مدينة ديربورن التي كنت أزورها دائماً للإحساس بالإلفة».
بعد فترة انتقل إلى نيويورك. «هذا الانتقال بنى لي تصوراً أوسع للعمل الإعلامي، خاصة فيما يتعلق بكيفية الوصول إلى المُتلقي». وأوضح قائلاً «في عالمنا العربي نعتبر مسبقاً أن الجميع ضليع ومهتم بما نكتب لأنها أولاً وأخيراً هي أخبارنا. أخبار سوريا، مصر، لبنان، العراق.. هي أخبارنا. أما في أميركا فيجب العمل على كيفية جعل المتلقي الأميركي المهتم بالـNBA مثلاً أن يهتم بالأخبار العالمية».
تعلم النعيمي من خلال تجربته، الكثير عن المجتمع الأميركي ونظرته إلى الشعوب الأخرى. وهو ما أوضح له «بعض اللبس الموجود لدى المجتمع العربي». «فمعظم الأميركيين لا يكترثون لما يجري بالعالم الخارجي… وبالكاد يعرفون شيئاً عن العرب».
فعلى سبيل المثال، الفروقات بين البلدان العربية غير واضحة للمواطن الأميركي عموماً «البعض مثلاً يخلط بين العراق وإيران. بل أحدهم ظن أنني أتكلم الفارسية لأنني عراقي»، مشيراً إلى أن محرراً في «نيويورك تايمز» طلب منه كتابة موضوع خاص عن الأفغان «.. وبعد قليل عاود الاتصال بي متسائلاً: أنت تتكلم الفارسية؟… فاستنتجت أنه حتى داخل مؤسسات إعلامية عريقة تجد أن المعرفة عن الشرق الأوسط أقل بكثير مما نتوقعه».
تعلم وتعليم
بالعودة إلى تجربته «نيويورك تايمز» في بغداد، يختصرها الصحافي النعيمي بأنها كانت «فترة تعلم وتعليم». قائلاً: «الصحافة العراقية قبل الغزو كانت صحافة دولة. أنظمة شمولية، أنت تكتب ما تؤمر به. بعد سقوط النظام والغزو الأميركي، تواجدت الصحف الأجنبية بشكل كبير. مما طور معارف العمل الصحفي لدينا، كمهنة لها أصول وقواعد يجب أن تُحترم: لا نصدر أحكاماً مطلقة… نتأكد من المصادر… ألخ».
بالنسبة إلى المراسلين الأميركيين، بغداد كانت ساحة حرب والذهاب إليها كان تطوعياً، «لذا جاءنا صحافيون، لا يمتلكون أية خبرة متعلقة بالعمل الخارجي. وكانوا بحاجة إلى فترة تدريب وتعليم ليتعرفوا على البلد وأخباره وتاريخه».
وتابع النعيمي مستذكراً ما حصل مع مراسل كان يعمل على إعداد تقرير مطول حول النوادي في بغداد، «ففي أحد الأيام، توجه مسرعاً نحوي في غرفة الأخبار قائلاً بالإنكليزية: أنا مصاب بدهشة لا تصدق». فتبين أن بعد زيارته لأحد النوادي البغدادية، شاهد المراسل صور احتفالات العراقيين برأس السنة في أربعينيات القرن المنصرم، قائلاً بدهشة إنه بالكاد استطاع التمييز بينها وبين احتفال الأميركيين في ذلك الوقت!
«فالفكرة المسبقة لديهم بأن العراق هو عبارة عن نساء يتعثرن بالجلاليب والخمار والنقاب. صورة نمطية وكأنه يشاهد فيلماً لعلاء الدين من الزمن القديم» وفق تعبير النعيمي.
«للأسف نحن نعود إلى الوراء»، يضيف قائلاً «إذا قارنا الإنتاج الفكري والأدبي خلال الخمسينيات والستينيات في العالم العربي مع إنتاج اليوم، نجد تراجعاً كبيراً جداً».
يلوم النعيمي «العقل العربي» لخوفه الدائم من الذهاب إلى معارف جديدة، «فهو يحب أن يقرأ ما يؤكد قناعاته فقط وهذا يصل لحد إنكار الحقائق العلمية».
«كنا نتمنى المضي قدماً مع أفكار مثل أفكار الدكتور علي الوردي بالتخلص من وعاظ السلاطين والانفصام ما بين البداوة والتحضر بتطوير شخصية الفرد العربي. ولكن وعّاظ السلاطين هم من يمتلكون سلطة القرار في بلادنا، ونحن نتراجع إلى الوراء».
Leave a Reply