ضج العالم بأسره فرحاً في الأسبوع الماضي لرؤية ٣٣ عاملاً من عمال المناجم في تشيلي يصعدون إلى سطح الأرض بعد٦٩ يوماً قضوها في ظلام دامس اثر إنهيار أحد المناجم في شهر آب الماضي مما أدى إلى دفنهم أحياءً بعمق نصف ميل تحت التراب، وظلوا ١٧ يوماً يعدون في قائمة الأموات، إلى أن عرف مصيرهم وبدأت عملية الإنقاذ الصعبة التي كادت تقترب من الأعجوبة. وإذا تمكن عمال المناجم من الصمود في الأنفاق المليئة بالرطوبة والحرارة الشديدة، فبفضل رحمة الله والدولة التي جندت كل طاقاتها وقدراتها من أجل الخاتمة السعيدة، وبفضل الشعب الذي توحد وراء أبنائه في هذه المأساة الوطنية فلم يختلف على جنس الملائكة وقت المحنة والمصائب!
لا يملك المرء إلا أن يقارن بين حال عمال المناجم التشيليين وحال عمالنا في البلاد العربية الذين لا كرامة لهم بحيث لو أنهم توفوا حتى وهم يزاولون عملهم لكنت بالكاد تجد نعيهم في صفحة الوفيات. أما في لبنان “الوطن” الذي شبه لهم، فحدث ولا حرج. العمال والمستخدمون وصغار الكسبة من اللبنانيين والعرب في بلد “الديمقراطية المذهبية” لا قيمة لهم بنظر النظام رغم أن البلد بني على ظهورهم، خصوصاً العمال السوريون الذين ساهموا في البناء والعمران في لبنان على أساس أن اللبناني “عيب” عليه أن يشتغل بالفاعل في بلده وأدنى ما يقبل به هو وظيفة مدير بنك أو موظف حكومي عاطل عن الإنتاج (لكن اللبناني نفسه لايستعيب في الخارج أن يجلي الصحون في المطاعم أويمسح الأرض، فهذا أمر مختلف). العمال السوريون كافأهم “ثوار الأرز” على إسهامهم في تعمير البلد بأن خلقوا جواً عنصرياً أدى إلى مقتل ٤٢ عاملاً سورياً ظلماً وغيلة. عمال لبنان والمعلمون فيه هم بلا حقوق وفي الدرك الوظيفي الأسفل، ومنذ تظاهرة عمال “معمل غندور” في الستينيات ومقتل العمال إلى تظاهرة الصيادين في صيدا واغتيال معروف سعد خلالها، إلى يومنا الحالي، لم يتغير شيء. المالكون هم هم من طبقة ٤ بالمئة الذين استفادوا من خيرات “شبه الوطن” منذ ما يسمى بإستقلال لبنان. هذا بلد بني على أساس إقتصاد استهلاكي مستورد لكل شيء لايمتلك البنية اللازمة للصناعة والزراعة والتجارة أو المواد الأولية، بل يقدم فقط الترانزيت والسياحة و.. “الخدمات”، حتى لا ينافس الكيان المصطنع في فلسطين. وفي هذا الإطار، لفتني حديث لوزير المال السابق الإختصاصي في المال والإقتصاد إلياس سابا الذي قال، أن خلفه فؤاد السنيورة لايؤمن بالصناعة أو التجارة بل بالسياحة لأن مردودها أسرع، وأنه عارض بناء مصنع لبناني سوري مشترك للتبغ كان سيؤمن وظائف لآلاف العائلات ومورد تصدير للخارج يغني الخزينة اللبنانية! إنه بلد “الإقتصاد الممذهب”! هذا بلد لا يؤمن بالحماية للعامل من التعطيل أو الإصابة خلال الوظيفة والتعويض التقاعدي أو راتب نهاية الخدمة. أذكر أن والدي كان عاملاً بحرياً لمدة ٤٠ عاماً في مرفأ بيروت وساهم مع غيره من العامليين في إزدهار هذا المرفق الحيوي، مع أن المالكين والمنتفعين هم من المافيا المذهبية التي كانت “تتمقطع” بالناس وتستغلهم على أساس أنهم نازحون من القرية إلى “المدينة الحضارية”، لكنهم “أخرجوه” من الوظيفة خالي الوفاض وبتعويض أقل ما يقال فيه أنه معيب بعد أن أفنى زهرة عمره في هذا “البور”. من ناحية ثانية، لا ضير في بلد على حافة الإفلاس، أن يدفع لنائب “بلا مازية ولا فكاهة” ولا “يهش ولاينش”، كل المرتبات والمخصصات ليتملك أكبرالعقارات والسيارات والبدلات والخادمات حتى ولد الولد، بينما العامل الفقير لايملك شروى نقير! بربكم من يبني هذا البلد: العامل الذي يدفع من عرقه ودمه، أم تلك “النائبة” التي لم تنبس ببنت شفة في البرلمان وكانت تقبض معاشها من دون جهدٍ يذكر وخبرتها الوحيدة أنها كانت تعد أطباقاً شهية لشارون؟ ثم بعد أن “أدت قسطها للعلى”، ورثت “الراية”لإبنها الغنوج، يخزي العين، ليتنافس عليها مع إبن عمه الدلوع الآخر. وأدفع المال وثمن الرحلات و”الفنكرات” يا “أونكل لبنان” (على غرار “الأونكل سام”). إنه لبنان حيث قانون “من أين لك هذا؟”غير موجود في القاموس المالي والسياسي. وكم من سياسي جربوع أو حتى موظف دولة سابق أو حالي، لا فرق، يملك مئات ملايين الدولارات في المصارف (ذات السرية) بينما الشعب بدأ يحن إلى رغيف الخبز ولقمة العيش ولكنه، رغم ذلك، يبقى يمتلك جهازي خليوي أو ثلاثة وسريلانكية وأفخم سيارة وآخر مبتكرات الموضة من الثياب والزينة القائمة على مبدأ إقتصادي مبدع: تدينوا حتى تتزينوا. والله بلد التناقضات العجيبة!
وإذا انتقلنا من الإقتصاد إلى السياسة، تبرز من جديدالمقارنة بين كارثة عمال المناجم الـ٣٣، وكارثة الحرب الإسرائيلية على لبنان لمدة ٣٣يوماً في تموز عام ٢٠٠٦، حيث بدأ الإنقسام والشرخ منذ البداية بتبرؤ حكومة السنيورة من أسر الجنود الإسرائيليين والتعهد بمحاسبة المقاومة (أتذكرون وصف “المغامرون”؟). حتى بعد الكارثة البشرية التي أدت إلى لجوء مليون جنوبي إلى الداخل، لم نجد هذه الحمية والوحدة الوطنية المفترضة أيام الشدائد، ناهيك عن إتصالات البعض في الداخل أللبناني بإسرائيل لكي لا توقف عملياتها العسكرية كما اعترف أولمرت بنفسه (من هم هؤلاء يا ترى؟؟). وقد بلغت الصفاقة بإحدى المذيعات في تلفزيون “المستقبل”، بعد أن أعلنت إعتزازها بمذهبيتها، بتربيح الجنوبيين الجميل رغم أنهم سكنوا في العراء ودفعوا دماء قلوبهم على المأكل والمشرب والإيجارات ولم يفتح قلبه وبيته لهم إلا الشعب السوري الشقيق.
كان قلب تشيلي على ابنائها المدفونين الأحياء، وقلب النظام في لبنان على حجر. هناك، أرادت تشيلي أن يرى أولادها وجه الشمس من جديد، أما “مدافن” النظام اللبناني الفاسد فتبغي دفن شعبها حياً في مقبرة الغلاء والتعتير (مستقاة من أيديولوجية التعتير) وإنعدام الخدمات والتسهيلات والكهرباء والماء إلا للمحظيين من طبقة المالكين والأثرياء والمتقاسمين للجبنة. حتى بعد الإنتصار، بفضل حفلة “شاي فتفت” الملحمية في ثكنة مرجعيون، منعت المساعدات عن المتضررين وجمهور المقاومة بل أن السنيورة حملهم بكل جلافة وزر التدمير الإسرائيلي! صبرك يا أيوب!
Leave a Reply