لأن هذه الأيام هي أيام انتخابات محلية في ديربورن وغيرها من المدن المجاورة، ولأن أسبوع الانتخابات قد يكون فارغاً مثل الأسابيع الخالية وبقية الأيام، والانتخابات الجديدة القادمة قد تشبه الانتخابات السابقة، ولأنه «بيروح مختار وبيجي مختار والسيارة مش عم تمشي» ولأن أصحاب السعادة المرشحين للمناصب الاختيارية والبلدية المحلية، ومنذ قديم الزمان إلى حديث الزمان، لا يتركون هذه الأيام تمرّ من دون أن يعملوا شيئاً يسعد الناس ويخدم مدينتهم، لذلك فهم يزيدون مخصصاتهم ويضاعفون امتيازاتهم ويطعمون الطعام على حبهم، البطرانين والشبعانين من حواشيهم ومعارفهم كما غنت فيروز للناس في مسرحية المحطة انتظاراً «للتران» الذي لن يأتي أبداً:
بلديتكم كريمة كل يوم عندا عزيمة
طعميهم على حسابك بيصير عندك شعبية
يا رئيس البلدية، يا رئيس البلدية
لا يدعون وسيلة إعلامية أو إعلانية إلَّا ويطلون علينا عبرها بوجوههم المضيئة البريئة، ويغرسون أسماءهم على جوانب الطرقات أمام البيوت والمتاجر وزوايا الشوارع، إمعاناً منهم في إسعادنا وإبعادنا عمّا يشغل بالنا، ويتحدثون في وسائل الإعلام والإعلان، ويرسلون رسائل على التلفونات بأصواتهم ونغماتهم لكي يذكِّرونا بوجودهم ومجهودهم للعمل في الفترة القادمة –إذا انتخبناهم واخترناهم على جهل الجاهلين– ولا يكتفون بذلك، بل يحشدون المؤيدين والمؤازرين لتوزيع منشورات مصقولة تحمل صورهم، وحول الصورة عبارات مطبوعة بحروف منوعة الألوان والأحجام بقصد الترغيب والتصويت لهم.
في كل مرة، وبعد قراءتي «بتمعّن» للمنشورات الانتخابية والاستماع إلى برامج المرشحين الإعلانية وعن الأعمال العظيمة التي قام بها السابقون والتي سوف يقوم بها اللاحقون، أتذكر ما كان يحدث عندما كان أباؤنا بالقرى الجبلية في لبنان، يجتمعون حول النار في ليالي الشتاء، وينصتون بانتباه إلى قارئ سيرة عنترة وما فيها من أشعار الفروسية والمروءة والحب بنغمة مؤثرة جميلة.
في بعض المرات، كانت السيرة تضطرّ عنترة إلى أن يغادر مجلسه لأن خصوماً له يطلبونه الآن للنزال، فيقف عنترة في الحال ويأخذ درعه ويحمل سيفه ويخرج من بين جلسائِه إلى حيث ينازل عشرة من صناديد الرجال ويقضي عليهم في الحال.
كان الساهرون يرفضون هذا الكلام بشدَّة. منهم من يغضب ومنهم من يتظاهر بعدم السمع ومنهم من يتأوه حاضناً رأسه بين كفّيه حزناً وأسفاً، لأن عنترة بن شدّاد العبسي، أبو الفوارس العابس، الذي لا يقدر عليه إنسٌ ولا جان ولا عفاريت الملك سليمان، ينهض من مقعده ويقف على قدميه ويحمل سيفه بيديه ويلبس درعه ويعتلي حصانه ويغيب عن المجلس حوالي نصف ساعة ليقضي على عشرة رجال فقط! فهذا غير مقبول وغير معقول. ثم يروح السامعون يتبارون في شتم مؤلف السيرة ويلعنون أمه وأباه لأن من كتب هذا الكلام هو «كذاب ابن كذاب»!
بمنطق أولئك الآباء الأشداء، وحسب ما تقول منشورات وإعلانات الانتخابات عن المرشحين وما يحملونه من شهادات وخبرات، الطامحين إلى احتلال المراكز القيادية وعدم الاحتفاظ بها إلى يوم القيامة، فلا يمدِّدون قاماتهم ولا يجدِّدون صفقاتهم ولا تعنيهم مصالحهم الشخصية، ولا يهدرون سنتاً واحداً من أموال دافعي الضرائب، بل ينفقونها في خدمة الجميع وما يقوم به المجلس البلدي لخدمة جميع سكان ديربورن وتطوير مدينتهم، وخصوصاً الجانب الشرقي منها، مما جعلها مثلاً يحتذى في المدن والبلدات المحيطة بها، حيث ترى بهاء ونظافة شوارعها وأزقتها واخضرار ونضارة الأزهار المختلفة ألوانها وأشكالها، كل هذه الأعمال والخدمات شيء قليل ذكره في المنشورات الانتخابية والوقت قصير ليفعلوا ما يقولون، لذلك لا بأس من تكرار أخطاء السابقين، وإنَّا لله وإنَّا إليه عائدون.
Leave a Reply