فاطمة الزين هاشم
قصّة روتها لي سيّدة ستينية، التقيتها فـي النادي الرياضي الذي أتردّد عليه من وقت لآخر، رأيتها تقوم بممارسة نوع من الرياضة القاسية التي طالما يقوم بها الرجال، دفعني فضولي للاقتراب منها محاولةً مداعبتها بالكلام حيث قلت لها: هل أنت مُقبلة على مباراة لكمال الأجسام، أو لرفعِ الأثقال؟ ضحكت وأجابت بالنفـي: «لا.. بل لمحاربة الزمن الذي حرمني من كلّ شيء».
ازداد فضولي عند هذه الإجابة، وطلبت منها أن تستريح لبضع دقائق علّني أكتشف سبب التعاسة المرسومة على وجهها الذي لا يزال يحتفظ ببعض لمحات الجمال، نظرت إليَّ بإمعان وسألتني: «هل جرّبت الحبّ فـي حياتك؟» قلت: نعم، وانجبت ستة أبناء، ضحكت وقالت: «هل هو أحبّك؟»، فضحكت أنا هذه المرّة وقلت لها: هذا السؤال الذي لم أجد له جواباً لحدّ الآن، ثمّ ضحكنا معاً وكانت هذه قصّتها:
أحبّت شابّاً غريباً عن مجتمعها تعرّفت عليه فـي إحدى الحفلات الموسيقيّة الصيفـية التي كانت تُقام على مقربة من مكان عملها، تعلّق قلبها به من النظرة الأولى وشعرت بشيء يجذبها نحوه دون سابق إنذار، مرّ اسبوع مروّع عجزت خلاله عن النوم والتفكير أو التركيز على عمل شيء يخرجها من حالتها المفاجئة، وحتّى عملها الذي كانت تعشقه وينسيها مشاكلها وهمومها عجز عن إخراج ذلك الوجه الجميل من مخيّلتها، شعرت به يقتحم سلامها، فجاءها يحتلّ جنّتها التي عملت طوال حياتها على إعلاء أسوارها، اقتحم حياتها وهي التي كانت تحرص على منع الناس من الاقتراب من ذاتها الشفّافة. بادلها الحبّ دون أن يُفصح لها عن خصوصيّاته، وكان كثير التغيّب عنها، تجلس بشرفتها تسامر القمر وتسأل نفسها عن أسباب حبّها وميلها لهذا الرجل الوحيد الغريب الذي من الممكن أن يوقعها بالحزن ويسبّب لها التعاسة، لكنّه سلبها قلبها وعقلها وقدرتها على الفرار من أسره، فلا هي قادرة على مواصلة العيش من دونه ولا على العيش بانتظاره، فإذا اختفى لأيّام تحوّلت إلى كتلة غضب وهيجان أعمى، وإذا كلّمها تحوّلت إلى فراشة مشرقة تنشر الحبّ حولها، أكّدت له أنّها تتفهّم انشغاله غير أنّها بحاجة إلى أن يُشعرها بوجوده، وأنّ اشتياقها له لا تريده أن يكون من طرف واحد، وعندما يكفّ عن الإجابة على اتصالاتها تشعر بأنّ أحشاءها تتمزّق فـي داخل نفسها، فتزداد شعوراً بالحرقة والألم والخوف، وكأنّ حياتها متعلّقة برنّات هاتفه التي تعلم بأنّه يتجاهلها عن عمد.
أخبرته بأنّه ضيف خفـيف الظل يزورها يوماً فـي الأسبوع ويختفـي بقيّة الأيّام دون أن يترك أثراً أو سبيلاً للاتصال به، يعاملها كغريبة، وكلما تناقشه فـي علاقتهما يبقى صامتاً، بكت بحرقة وألم وهي لا تشعر إلا بحرارة دموعها على وجنتيها، وعندما وجدته صامتاً هادئاً عاجزاً عن اتّخاذ قرار أو التلفّظ بأي كلمة، طلبت منه أن يبتعد عنها، وأن يتركها للتخلّص من هيامها به، وأن يرحل عنها دون عودة وهي التي كانت تشعر فـي كلّ مرة يغيب عنها بأنّه لن يعود.
مرّت شهور وهي تخوض حرباً ضدّ طيفه وصوته ولمساته على بشرتها، لكنّها فـي حين تكون هادئة متماسكة نهاراً، تنهار ليلاً، تحوّلت إلى ظلّ إنسان، ظلّ يتحرّك كالآلة، يضحك ويُحيّي ويهنّئ ويصافح نهاراً، ثمّ يبكي ويحترق ليلاً فـيشعر بانكساره الدائم وخيبته السائرة به نحو الهاوية، أين تراها تختبئ وإلى من تلتجئ؟ فالأماكن كلّها تذكّرها به، والأصوات كلّها تعيدها إلى صوته، لقد انسلّ من بين يديها كالماء الهارب من الغدير، وكالغبار المتناثر فـي الهواء.
سنة مرّت بأكملها لم تتمكّن من خلالها أن تجعله يرغب بالنضال من أجل أن يرتبطا مدى الحياة، وهي قد دخلت إلى حياته يوم كانت فتاة رقيقة حالمة، وخرجت منها فتاة محطَّمة عاجزة عن لملمة أشلائها.
والآن بعدما أصبح أبشع كوابيسها واقعاً مرّاً تعيشه، هاهي تجد نفسها فـي الحالة التي حاولت الهرب منها طيلة حياتها، حالة الانهيار والفقدان والضياع، حالة ما بعد الخسارة، حالة ما بعد الحبّ، مرّت سنة وهي عاجزة عن البحث عن حبّ جديد أو عن صداقة تحلّ محلّ الفراغ الذي وُلد فجأة فـي قلبها، صارت الوحدة ملجأها وملاذها، صار ألمها رفـيقها وأنيسها وذكرياتها، أفلام تتفرّج عليها كلّ مساء وتقرأ فـي تفاصيلها مأساتها.
لكنّه فجأة عاد إليها، عاد من أجلها، من أجل الفرح البريء فـي عينيها وإطفاء الألم الحارق الذي خلّفه فـي قلبها، عاد بعد سنين، لم تستغرب عودته وكأنّها كانت تتوقّعها وتتنبّأ بحصولها، عاد بالورود الكثيرة واعترافات الحبّ الرقيقة، قفز قلبها من مكانه ليرتمي بين أحضان الحبيب، توقّعت عودته لكنّها لم تتوقّع ما سيقوله لها، لم تتوقّع بأنّه سيقول لها حقيقة تدمّر حياتها إلى الأبد، انتهت حياتهما بعبارته: «أنا لستُ من دينك، وديانتي تحرّم عليَّ الزواج من امرأة تعتنق ديانة أخرى».
صُدمت وحاولت إقناع نفسها بهذه الحقيقة، هي لن تحلّ قضية المجتمع برفضها حبّه، ولن تضر أحداً إن قبلت هذا الحبّ، لكن ماذا عساها أن تفعل، وهي المرأة العاشقة، فـي مواجهة مجتمع لا يعرف إلّا التقاليد التي تدمّر القلوب المحبّة؟ وهو شابّ يشبهها فـي عجزه عن تغيير الواقع الاجتماعي أو الدفاع عن المظلومين، أو حتّى رفع صوته للتعبير عن اعترافه، فكيف رجل أو امرأة على مجتمع بأسره أو على دين بأكمله؟
ودّعته وهي تحبس الدموع فـي عينيها لئلّا تفضح ضعفها، كان يعرف بأنه لن يتمكّن من جعلها امرأة سعيدة، ودّعته منذ سنوات طوال لا تتذكّره، ولا تريد أن تتذكّره، على الرغم من أنّها تتذكّره لكنّها تتناسى، طالما كرهت التواريخ والأرقام، طالما كرهت الأعمار وسنوات المواليد وعدد السنوات التي مرّت منذ لقائها الأخير به.
هاهي الآن تجاوزت الستين وهي تحيا وحيدة، تعيش مع ذكرى الحبيب الغائب محتضنة طيفه، ملتحفة بذكرى الأيّام التي قضتها معه ممنّية نفسها بلقائه يوماً، مهما طال الأمد.
Leave a Reply