عماد مرمل – «صدى الوطن»
مع ترشيح رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع للعماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية، تكون عملية بعثرة الأوراق والاصطفافات التي بدأت مع مبادرة الرئيس سعد الحريري الرئاسية قد اكتملت.
صحيح أن قوى «8» و«14 آذار» لا تزال موجودة على الورق، لكن يبدو واضحاً أن لاعبي الاحتياط هم الذين يملأون الفراغات حالياً، بعدما أدت التطورات المتلاحقة الى سحب العصب السياسي لكل من الطرفـين، بحيث لم يبق منهما على أرض الواقع سوى أشباح وظلال.
ما حصل فـي لبنان مؤخرا يكاد يرقى الى السوريالية. انه أكثر من تحول.. هو انقلاب فـي الأدوار والمواقع والتحالفات والخيارات، نقل الاستحقاق الرئاسي من حالة الجمود والركود التي كان يعاني منها الى مرحلة الاحتمالات المفتوحة والباب الدوّار.
جعجع ينسحب من المعركة الرئاسية ويرشح ألد أعدائه (سابقاً) الى أعلى مركز فـي الجمهورية اللبنانية، قافزا فوق كل الاتهامات التي كان يوجهها الى الجنرال حول تخليه عن السيادة والاستقلال وتبعيته لـ«حزب الله» والمحور السوري-الإيراني وتغطيته للسلاح غير الشرعي وقيادته المسيحيين الى مغامرات وتجارب فاشلة.
أما عون الذي خاض حرب إلغاء ضد جعجع وتصدى لكل خياراته منذ عام 1988، فلم يجد حرجاً فـي زيارة «عاصمة» حزب «القوات» فـي أعالي كسروان، على قاعدة ان الطريق الى بعبدا تمر فـي معراب، وسط احتفالية حارة تدرجت من مراسم استقباله حتى لحظة جلوسه الى جانب جعجع مصفقا لخطابه.
وإذا كان الحريري قد احتفل قبل أشهر بعيد الميلاد الثمانيني لعون من خلال قطع قالب الحلوى الشهير فـي بيت الوسط على شرفه، فان جعجع احتفى أيضاً بعيد الميلاد «الرئاسي» للجنرال عبر قالب حلوى «قواتي المذاق» هذه المرة.. فهل سيستمر جعجع فـي دعم عون حتى النهاية مثبتاً مصداقيته وخلو مبادرته من شبهة المناورة، أم أن قالب معراب سيكون كما قالب بيت الوسط مجرد.. «مقلب»؟
على الضفة الأخرى، فان غرائب السياسة وعجائبها لا تقل شأناً. وها هو سعد الحريري -الذي ينادي بإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد ويهاجم «حزب الله» بسبب تدخله العسكري فـي سوريا دفاعاً عن النظام- لا يتردد فـي أن يرشح فجأة «التوأم السياسي» للأسد ووزير الداخلية الأسبق فـي لحظة اغتيال الرئيس رفـيق الحريري، رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية الى رئاسة الجمهورية.
وفرنجية الذي كان من أشد الخصوم للحريري وأقسى معارضيه أصبح بين ليلة وضحاها أقرب اليه من شريكه المفترض فـي تكتل التغيير والاصلاح.
انها لعبة الرمال السياسية المتحركة حيث لا صديق ثابت ولا عدو ثابت بل مصلحة دائمة.
والمفارقة الأخرى فـي هذ المشهد هي أن قوى «14 آذار» المدعومة من السعودية أصبحت منقسمة بين تأييد حليفـي سوريا و«حزب الله» حصراً، عون وفرنجية، وأن قوى «8 آذار» فـي المقابل تبدو حائرة لا تعرف من تختار، وسط تعدد الاجتهادات فـي صفوف قياداتها، إذ أن الرئيس نبيه بري يتحمس ضمناً لفرنجية فـي حين ينحاز «حزب الله» الى جانب عون، وتتوزع الأطراف الأخرى بين هذا وذاك..
لكن ما هو مؤكد وسط الفرضيات المفتوحة، ان رئيس الجمهورية المقبل سيكون حتماً من محور المقاومة والممانعة، بعدما أصبح صعباً تخفـيض سقف الاختيار الى ما دون الخيارين المعتمدين من الحريري وجعجع، الأمر الذي يشكل إنجازاً نوعياً، بل انتصاراً استراتيجياً لهذا المحور الذي يبدو وكأنه يتعثر بهذا الانتصار ولا يجيد تظهيره، نتيجة التجاذب الحاصل بين عون وفرنجية وما يولده من إرباك أو إحراج لدى حلفائهما.
ويعكس إقرار رئيسي «المستقبل» و«القوات» بحتمية ان يأتي الرئيس المقبل من صفوف الخط السياسي المضاد، التحول الحاصل فـي المعادلتين الاقليمية والمحلية، ذلك ان التجارب أظهرت أن رئيس الجمهورية فـي لبنان هو باستمرار نتاج موازين القوى، لا موازين العواطف، وبالتالي فإن وصول جعجع الى قناعة بترشيح عون، بعد قناعة الحريري بترشيح فرنجية، إنما يؤشر بوضوح الى أن الخط الاقليمي-الدولي العريض الذي ينتمي اليه المرشحان بات يملك الأرجحية فـي الصراع، وان خصومه فـي لبنان والمنطقة يسعيان الى حصر الخسائر عبر البوابة اللبنانية من خلال تقديم تنازلات فـي الملف الرئاسي، على أمل تعويضها أو مقايضتها بمكاسب فـي نواحي أخرى من السلطة (رئاسة الحكومة، الادارة، المقاعد النيابية، الحصص الوزارية)، قبل ان تتدحرج الخسائر مع الوقت ويغدو متعذرا الحصول ولو على جائزة ترضية فـي مقابل القبول بانتخاب عون او فرنجية رئيسا للجمهورية.
ولئن كان قد أصبح شبه مؤكد أن الرئاسة باتت محصورة عمليا فـي دائرة عون-فرنجية، ولن تخرج منها، إلا ان ذلك لا يعني أن الانتخابات باتت قريبة جداً، خصوصاً أن الخارج، وهو ناخب أساسي ومرجِّح، لم يحسم أمره بعد ولم يفرج عن كل أحرف كلمة السر حتى الآن، الامر الذي يفسح المجال أمام الأطراف الداخلية للاستمرار فـي محاولة تحسين المواقع التفاوضية والسعي الى رفع سعر أوراقها وبالتالي المساومة على إمكانية قبولها بهذا المرشح أو ذاك.
ولأن القرار الحاسم لا يزال قيد التكون، فإن كلاً من عون وفرنجية ليس مستعداً فـي هذا التوقيت للانسحاب من أجل الآخر، لا سيما أن كلاهما يعتقد أن فرصته للوصول الى قصر بعبدا هي جدية بالقدر الذي يسمح له بأن يبقى مصراً على ترشيحه، حتى إشعار آخر، فـي انتظار ظهور معطيات جديدة تفرض انسحاب أحدهما.
Leave a Reply