إنها مناسبة العمر!
العقيد الليبي معمر القذافي على الأرض الأميركية بعد 40 سنة من الحصار والعزلة والكر والفر في معركته مع الإمبريالية والاستعمار. هذا الثوري الذي قفز إلى السلطة بانقلاب عسكري، أمضى معظم حكمه في التفتيش عن شرعية ثورية لم يعثر عليها إلا في تمويل انقلابات في جمهوريات الموز في القارة السوداء، وفي مد يد التدخل في البلدان المجاورة وفي بعض البلدان العربية التي أغدق على بعض أحزابها ومنظماتها من أموال البترودولار الوفيرة بسخاء.
وقف قائد “ثورة الفاتح” ورئيس “الجماهيرية الشعبية الليبية الاشتراكية العظمى”، على منبر الأمم المتحدة لأكثر من ساعة ونصف الساعة متجاهلا الوقت المخصص له، ليطرح رؤيته لحل مشاكل العالم مستهلا بتوبيخ قادة الأمم المجتمعة بوصفهم “ديكور” و”هايد بارك” (مكان تسلية) للقوى الكبرى المهيمنة على الأمم المتحدة.
تحدث القذافي بنبرة القائد الأممي المعلم الذي يحمل مشروعا لحل مشاكل العالم يبدأ بالدعوة إلى نقل مقر المنظمة الدولية من نيويورك إلى “سرت” الليبية أو فيينا النمساوية، باعتبارهما تقعان في وسط الكرة الأرضية. ما الداعي، تساءل القذافي، لعبور البحار والمحيطات وتجشم عناء السفر لساعات طويلة للوصول إلى مقر هيئة الأمم، ثم التعرض “للإهانة” بتحديد حركة القادة والزعماء في نطاق عشرات أو مئات الأمتار لا أكثر. أما الخيمة التي رفضت سلطات نيوجرسي السماح بنصبها في أرض تابعة للسفارة الليبية فقد كتم القذافي غيظه لكي لا يبدو “ذاتيا” في انتقاده للإجراءات الأمنية الأميركية المرافقة لزيارة الوفود الأممية. ففي “سرت” قال القذافي، لا خوف على أمن الزائرين ولا حاجة لتأشيرات دخول! وتقييد حرية الحركة.
طرح القذافي رؤيته لحل مشاكل العالم انطلاقا من سلسلة محاكمات تاريخية للقوى الاستعمارية و”المتآمرة” على الشعوب تبدأ من فتح ملف اغتيال باتريس لوممبا في الكونغو مطلع الستينات من القرن الماضي ولا تنتهي باغتيال مارتن لوثر كينغ وجون أف. كينيدي في الولايات المتحدة في الفترة ذاتها!
أطنب الزعيم الليبي في تعداد جرائم القوى الكبرى، المتمثلة بالإستعمارين القديم والحديث، مطالبا بفتح ملفات حروب مثل حرب السويس في العام 1956 وحربي أفغانستان والعراق في مطلع القرن الحالي وما بينهما من حوادث وحروب واغتيالات كإغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة في بيروت على يد الكوماندوس الإسرائيلي عام 1973 وإغتيال خليل الوزير (أبو جهاد) في عملية إنزال على الشاطئ التونسي واغتيال أبو إياد (يقال إن قاتله كان “أبو نضال” الذي استأجر القذافي بندقيته لزمن!) ومجازر صبرا وشاتيلا التي ارتكبتها إسرائيل بأدوات لبنانية، وغيرها الكثير من الحوادث والحروب التي يطالب القذافي بإعادة فتح ملفاتها لتحقيق العدالة الدولية و”إلا فكلكم قرابين” سوف يضحى بكم الواحد، تلو الآخر، “حيوانات للذبح والتضحية”.
“كيف أُعدم صدام حسين وأعضاء حكومته صبيحة عيد الأضحى”، تساءل القذافي، “وما المانع أن يكون الرجلان المقنعان اللذان نفذا حكم الإعدام بصدام هما جورج بوش وطوني بلير، ما غيرهما! وإلا فليفصحوا لنا عن هوية هؤلاء ولماذا تنكروا وهم يعدمون رئيس دولة مستقلة وعضو في الأمم المتحدة، ويعتبر بالمعايير الدولية أسير حرب يجب إطلاقه عند انتهاء العمليات العسكرية”.
“أما طالبان فما لنا ولها؟ تريد إقامة دولة دينية؟ فلتفعل. أليس الفاتيكان دولة دينية؟”، مقارنة مبسطة ساقها القذافي متجاهلا، وهو الذي تتولى حراسته مجندات متعلمات سافرات أن طالبان ترفض تعليم الفتيات وإدخالهن المدارس أو حتى عرضهن على ضوء الشمس! (مجرد ملاحظة)
أما إسقاط طالبان فكان من دون وجه حق، يرى القذافي، فما علاقة طالبان بـ”القاعدة” (استهتار بعقول قادة الأمم ما بعده استهتار!) فـ”القاعدة”، برأي ملك ملوك أفريقيا، لم تنطلق من أفغانستان في اعتدائها على أميركا. “انطلقت من هنا.. من مطار كينيدي” (الرجل فقد تركيزه في منتصف الخطاب). “ما شأن طالبان وصدام حسين؟” يسأل القذافي، وهو محق فيما خص النظام العراقي الذي لم تثبت علاقته بـ”القاعدة” من قريب أو بعيد. ربما أراد التلميح هنا إلى مسؤولية سعودية عن هجمات 11 أيلول، وتحريض الأميركيين على السعوديين، لكنه توقف عند تلك الإشارة الخاطفة عندما تساءل “من هي القاعدة” وترك للحضور الاستنتاج.
حاول القذافي بظهوره للمرة الأولى على المنبر الأممي أن يبدو كـ”المخلص” أو “المنقذ” أو “المهدي المنتظر” الذي جاء إلى نيويورك لينطلق منها مالئا الدنيا قسطا وعدلا بعدما ملئت جورا وظلما!
لكن “قائد ثورة الفاتح” تجاهل عن عمد عدة جرائم وقفز فوقها بانكشاف تام: لم يخبرنا عن جريمة إخفاء السيد موسى الصدر ورفيقيه الذين كانوا في ضيافته قبل 31 عاما، ولم يدع إلى “فتح ملفهم” على غرار الملفات الكبيرة والقديمة التي طالب بفتحها. ذكر “مجزرة صبرا وشاتيلا” (مشكورا!) لكنه لم يأت على ذكر مجزرتي قانا الأولى والثانية، والأولى كما لا يخفى عليه، جرت داخل مجمع للأمم المتحدة وتحت رايتها! ذكر “حرب السويس” قبل 53 عاما ولم يأت على ذكر حرب تموز قبل 3 أعوام! قافزا إلى حرب غزة التي تلتها! غريب أمر هذا الرجل، يطالب بتحرير مانويل نورييغا من سجنه الأميركي ولا ينبس ببنت شفة عن مصير السيد موسى الصدر ولو من باب الدفاع عن النفس أمام جريمة إخفاء شخصية يهم مصيرها ملايين الشيعة في لبنان والعالم!
يتناول القذافي جرائم مثل اعتداءات 11 أيلول “التي ضربت هذه المدينة” (نيويورك) ولا يتذكر جريمة لوكربي التي عقد صفقة بشأنها مع أميركا والغرب كلفت الشعب الليبي عدة مليارات من أمواله.
أما الأدهى فهو زعمه بأن جماهيريته وبلدان شمال افريقيا هم “الشيعة الحقيقيون” وأن الدولة الفاطمية “التي انفردت بالحكم العادل من بين كل دول الخلافة الإسلامية” يجب أن تقوم مجددا، ومن ليبيا بالتحديد، ليكون القذافي هو “الخليفة العادل”. عال العال! لكن لماذا لا يكشف العقيد عن مصير واحد من أبرز الرموز الشيعية في العصر الحالي؟ (كان على أحد أعضاء الوفد اللبناني أن يخرق البروتوكول ويقاطع العقيد بالسؤال: لكن أين موسى الصدر ورفيقاه يا سيادة العقيد؟)
أما بيت القصيد في مطولة القذافي المسلية حقا، والتي ساق فيها الكثير من “كلام الحق الذي يراد به باطل” فيكمن في نظرته إلى حل القضية الفلسطينية. يريد العقيد بعدما أبرأ ذمة اليهود من اغتصاب فلسطين، قيام دولة واحدة تضم جميع الأعراق والأديان. تحاشى هذه المرة تسميتها بـ”إسراطين” ربما لأسباب مسرحية، مبشرا مغتصبي فلسطين من شتات اليهود “بأننا أبناء عمومة”، و”سوف نحميكم مثلما حميناكم في محطات تاريخية من الرومان وأحفادهم فيما بعد”. لكن العقيد لم يتطرق إلى الصهيونية وأيديولوجيتها العنصرية، ولم يقدم تصورا لممثلي الأمم المستمعين إلى خطابه عن كيفية إجبار عتاة الصهاينة على تطبيق نظريته المستحدثة لحل أزمة الصراع العربي-الإسرائيلي.
قدم القذافي عرضا مسرحيا مسليا على مدى ساعة ونصف، لرؤيته حول مشاكل العالم وإنهاء تسلط الأقوياء على الضعفاء، لكن التسلط باق، والدليل أن القذافي كان أول من تنازل عن عوامل قوته بعد اعتداءات 11 أيلول جزعا من مصير مشابه لمصير صدام حسين. فدعا أميركا والغرب من خلال وكالة الطاقة الذرية إلى تفكيك منشآت ليبية كانت “رجسا من عمل الشيطان”!
أخضع القذافي نفسه لوصاية وحماية القوى الكبرى التي هاجمها في خطابه الممسرح من على منبر هيئة الأمم، معتقداأن الشعوب العربية والافريقية من السذاجة التي تجعلها جاهلة بخضوعه لإملاءات الاستعمار الجديد.
نجح القذافي في التنفيس عن إحباطاته، لكن شيئا وحيدا نغص عليه تقديم عرض مكتمل في نيويورك: إنها تلك البلدة الصغيرة “اللعينة” في نيوجرسي التي رفضت السماح له بنصب خيمته الصحرواية فوق أراضيها.
لعل القذافي تعلم درسا في أهمية إحترام إرادة الشعب، عندما يعود إلى “جماهيريته الشعبية”. القذافي ممثل مسرحي قدير، لكنه بالتأكيد ليس “المهدي المنتظر” أو “المخلّص” الذي حاول أن يقود العالم من نيويورك إلى “سرت” فيما يشبه النبوءة التي سيفتي له العرافون بأنها مجرد أضغاث أحلام، ربما تكون قد نجمت عن حرمانه من المبيت تحت سقف الخيمة وإجباره على النوم في أحد فنادق منهاتن!
يرقى خطاب الزعيم الى عالم متخيّل لم يخرج منه بعد، منذ يوم الفاتح من سبتمبر عام ١٩٦٩ الذي حمله الى السلطة. يوحي هذا الخطاب ان القائد الثوري الذي اعتلى منصة أعلى هيئة دولية خارج لتوّه من كهف التاريخ الى شمس النهار للبحث عن “المدينة الفاضلة” بسذاجة الثوريين البدائيين الذين لطالما توهموا أن العالم طوع بنانهم، ثم انتهوا محبطين مهزومين.
هكذا مزّق القذافي نسخة من ميثاق الأمم المتحدة “عديم الجدوى” وأحال العالم الى “الكتاب الأخضر”.
بدا القذافي على مسافة بوصة من إعلان “مهدويته”، لكنه إنكفأ في اللحظة الأخيرة، ربما لإدراكه أن “المهدي المنتظر” لا يخرج من منهاتن!
Leave a Reply