كان ذاهباً إلى المدرسة، الفتى إبن الستة عشر ربيعاً. كان يجتاز دروب القرية وكانت سنديانة، زيتونة، تينة وعريشة عنب مثل منارة فوق تلة. القرية صُلِبت وطعنت بكل أنواع الحراب والسهام. ربما كان يدندن لحناً أو يتلو صلاة. الولد الحبيب عند أمِّه، والأثير عند المعلمين والمعلمات، وفخر مدرسته لذكائه ونبوغه بين شباب القرية، الوادعة فوق تلال الجنوب.
كان يحلم بالمستقبل، بالنجاح. يحلم بسرير دافىء لأمه تحت سقف بيت. يحلم بيده تمسح جبينها، وساعديه يطوقان كيانها المتعب بحنان. وكان يمشي صباحاً فوق طريق حفرته جنازير الدبابات وآثار القنابل. وظل الفتى يسير بمحاذاة حيطان تهدمت حجارتها، ويبصر في حلم اليقظة وجوه الرفاق، ويبصر وجه أمه ووجوه الأخوة والجيران، وكان يتساءل: متى ستنتهي الحرب؟ هل ستنتهي؟
وفجأة سكتت زقزقة العصافير وآوت إلى أعشاش خفيَّة، واختفت الحيوانات في شقوق الصخور، وآوت الفراشات إلى مخابئها في دفء الأعماق، ولم يبق فوق الطريق سوى دوي قنابل غاضبة أفقدت الفتى وعيه فهوى جسده المسكين وتاهت صرخاته المكتومة مع عويل العاصفة. لم يدخل الفتى أقواس قزح كما وعدته العاصفة مثلما غنَّى مرسيل خليفة. العاصفة أدخلته إلى عالم خاص مغلق، لامبال، ضائعاً بين الوهم والحقيقة والإهمال والفقر وانعدام الأمان، جعلته إنساناً يجلس أمام نافذة مطلة على ساحة القرية، يتأمل الناس يذهبون ويجيئون، وهو مكبَّل ضمن دائرة عزلته، يطوقه الصمت وتسوره الأسرار، في مجتمع قروي تقليدي، تعتبر العاهة النفسية عيباً شنيعاً يجب إخفاؤه، ويعيش بمعزل عن إخوة وأخوات وضمن عائلة غير مبالية في وقتٍ مفقود فيه الأمان.
زادت حالة الفتى سوءاً، عندما كان يجري خلفه الأطفال الأشقياء في أزقة القرية، مرددين كلمات وأناشيد تقهره وتعذبه، وينبزونه بألقاب بشعة. لم يكن يرد، بل كان ينظر إليهم نظرة حيرة وعتب. وكانت بعض الأمهات تنبه أولادهن إلى الابتعاد عن طريقه، وكأنهن بذلك الإنذار يدفعن الفتى إلى الولوج أعمق وأبعد في عالمه الغامض المختلف والذي جعله يقضي حياته على هامش المجتمع، لعدم وجود مؤسسات متخصصة في الطب النفسي وتقديم العلاج المفيد لذلك الإنسان الذي قست عليه الظروف الاجتماعية والعائلية، خصوصاً في بيئة القرية الصغيرة، حيث لا مجال فيه لإخفاء الآلام والعيوب، بل تنعكس صورة الشخص المريض في مرايا الآخرين بكل ما فيها من معاناة ومأساة ومن عقل ومن جنون.
الأسبوع الماضي رحل حسين، ذلك الشاب الذكي الذي كانت الحروب سبب مأساته وخسران أحلامه في الحياة، حيث قضى سنين عديدة حبيس الإعاقة النفسية في غياب علاج ومتابعة لا كما يحدث في بلاد الله التي تحترم الإنسان، مهما كان سبب إعاقته النفسية والجسدية. مضى بريئاً بسيطاً خالياً من عيوب زعماء وزعيمات فاسدين وفاسدات، مثل نار جهنم كلما أتتهم الأموال والهبات للاهتمام بذوي الاحتياجات الخاصة، سرقوها ووهبوها لأولادهم وأقربائهم وقالوا هل من مزيد!
ألف رحمة إلى روح الشاب حسين ابن خالتي، ذي النفس المطمئنة التي رجعت إلى ربها راضية مرضية، كما جاء في الآية الكريمة، والعزاء لنا جميعاً نحن المعوقين في هذه الدنيا العاجزين أمام الحروب والفساد.
Leave a Reply