في استعداء جديد من نوعه، تسبب الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأزمة غير مسبوقة بين البيت الأبيض والرياضيين الأميركيين بعد تصريحاته المثيرة للجدل ضد احتجاجات لاعبي كرة القدم وكرة السلة على ظاهرة العنصرية من خلال جثوهم على ركبهم أثناء عزف النشيد الوطني بدل الوقوف احتراماً للعلم الأميركي.
وقد بلغت حماسة الرئيس، نجم برنامج «ذا أبرنتس» (المتدرب)، أوجها خلال تجمع انتخابي في ولاية ألاباما -الجمعة الماضي- حين قال أمام حشد من أنصاره «ألا ترغبون برؤية أحد مالكي فرق دوري الفوتبول عندما لا يحترم أحدهم علمنا أن يقول: أخرجوا ابن العاهرة هذا من الملعب حالاً… إنه مطرود»، في إشارة للاعب السابق في نادي «سان فرانسيسكو فورتي ناينرز» كولين كايبرنيك الذي ركع في آب (أغسطس) 2016 أثناء عزف النشيد الوطني الأميركي احتجاجاً على مقتل عدد من السود بأيدي رجال شرطة بيض.
واعتبر ترامب أن قيام أحد مالكي الأندية الرياضية بطرد هؤلاء اللاعبين المحتجين سيجعله الشخص الأكثر شعبية في البلاد، دون أن ينتبه الرئيس الأميركي إلى أنه يفقد شعبيته بشكل متسارع، حتى ضمن الأوساط التي صوتت له في الانتخابات الرئاسية، حيث تشير الاستطلاعات إلى أن شعبيته قد انخفضت إلى أقل من 30 بالمئة منذ توليه سدة الرئاسة الأميركية.
كايبرنيك -من جانبه- كان قد بدأ حملته الاحتجاجية، العام الماضي، جاثياً على ركبته خلال عزف النشيد الوطني. وقد عزا ذلك السلوك في حديث صحفي بعد نهاية المباراة بالقول: «لن أقف لأظهر اعتزازي بعلم بلد يقمع السود والملونين»، ومضيفاً «بالنسبة لي ما أفعله هو أكبر من لعبة الفوتبول وسوف أكون أنانياً إذا تغاضيت عما يحدث.. هنالك جثث في الشارع وهنالك أشخاص يقتلون ويحصلون على إجازات مدفوعة الأجر».
ويظهر ذلك التصريح للعالم، البعد الإنساني في تصرف كايبرنيك الذي مايزال يجتذب الإدانات من «اتحاد كرة القدم الأميركي» (أن أب أل) والعديد من اللاعبين والمواطنين الآخرين، ولكن الرياضي المعترض على عنف الشرطة الأميركية لم يتراجع عن موقفه، وإن عدل في موقفه الاحتجاجي.
بعد الحديث مع اللاعب السابق والمحارب القديم في الجيش الأميركي نايت بوير، قرر كايبرنيك الركوع على ركبته خلال عزف النشيد الوطني بدلاً من الجلوس على مقاعد البدلاء لإظهار المزيد من الاحترام للقوات المسلحة وقدامى العسكريين، في حين ما يزال مستمراً بالاحتجاج على المظالم.
إن قراره ذاك يظهر بوضوح إعجابه العميق ببلده وبالرجال والنساء الذين يدافعون عنه ويحمونه، ولكنه أيضاً يكتنف تصميماً واضحاً على الإشارة إلى أوجه القصور «غير الأميركية» التي يتوجب معالجتها بسرعة بالغة، وهو ما أدركه العديد من اللاعبين الذين حذوا حذوه.
ومع أن الرئيس الأميركي كان قد رأى في وقت سابق أن من حق المواطنين الاحتجاج على غياب العدالة في بلدنا، وبأية طريقة مدنية يرتضونها، وفقاً للدستور الأميركي، إلا أنه اختار أن يهاجم حقوق اللاعبين بلغة كريهة، أقل ما يقال فيها، إنها لا تليق أن بلغة رئاسية.
فعندما تظاهر العنصريون البيض احتجاجاً على إزالة تمثال الرمز الكونفدرالي، الجنرال روبرت لي، من حديقة عامة في مدينة تشارلوتسفيل بولاية فيرجينيا، في 12 آب (أغسطس) الماضي، واشتبكوا مع متظاهرين مناوئين مما أسفر عن مقتل شخص وإصابة 19 آخرين، لم يقم الرئيس بإدانتهم، وإنما أنحى باللائمة على كلا الفريقين مشيراً إلى وجود «أشخاص طيبين» في كلتا التظاهرتين.
من الواضح أن ترامب لا يعرف بأي نوع من الاحتجاجات يجب أن يندد، أباللاعبين الأميركيين الذين يحترمون بلادهم ويسعون إلى التغيير الإيجابي والمحق فيها، أم بالعنصريين البيض الذين وصفهم «بالأشخاص الطيبين»، قبل شهر مضى؟!
وبدلاً من معالجة القضية التي يحتج من أجلها الرياضيون، فإن الرئيس الأميركي قام بمهاجمتهم وربما تسبب بفقدان بعضهم لوظائفهم، تماماً كما حدث مع كايبرنيك نفسه، لأن ترامب قال إنه سوف يستخدم «تويتر» لخلق أزمة علاقات للفريق الذي سيوقع عقداً معه.
كما اختار الرئيس أن يقضي نهاية عطلة الأسبوع مركزاً على انتقاد حق المواطنين الأميركيين بالاحتجاج، بدلاً من تلبية احتياجات ملايين الأميركيين المتضررين من إعصار ماريا في بورتريكو.هذا التصرف -أيضاً- يمكن وصفه بأي شيء عدا كونه تصرفاً رئاسياً.
وقد يجادل البعض بأن الركوع خلال النشيد الوطني ليس عملاً وطنياً، ولكن الركوع من أجل نشر الوعي وإعلان المواقف ليس كذلك حتماً، وذلك ما فعله كايبرنيك، وإننا في «صدى الوطن» نتضامن مع الرياضيين الأميركيين الذين يمارسون حقهم الدستوري في الاحتجاج، ونؤمن بأنهم لا يحقّرون علمنا، وإنما يتمردون ضد القيم اللاأميركية.
لقد كانت الحركات المدنية والحركات المناهضة للحرب على فيتنام من أكبر الحركات الاحتجاجية في القرن العشرين، وقد أنتجت أبطالاً وطنيين عظاماً من أمثال محمد علي كلاي وروزا باركس ومارتن لوثر كينغ، وإننا على يقين بأن احتجاجات «اجثُ على ركبتك» لن تهزم وسوف تخلق أبطالها الخاصين لأيامنا الراهنة.
اللون الأحمر في علمنا الأميركي يرمز للشجاعة والعزيمة والدماء التي بذلها أبطالنا، والأبيض يمثل نقاء أميركا واستقلالها واهتمامها بخياراتها، أما الأزرق فيرمز للمثابرة من أجل العدالة المتجذرة في وطننا، ومع ذلك ما زلنا نرى باستمرار، الأفارقة الأميركيين وهم يفقدون حياتهم جراء أعمال العنف، وكذلك الكراهية والتمييز ضد الأقليات، فيما يزداد صخب العنصرية البيضاء، وإنه لمن المؤسف حقاً أنه لا يوجد -بعد- استقلال كامل ولا يقظة ولا عدالة في أمتنا طالما أن الماضي لم يمت، واحتجاجات «اجث على ركبتك» تلقي الضوء على هذا الواقع المرير.
إن النشيد الوطني الأميركي مأخوذ من قصيدة فرانسيس سكوت كي، المعنونة بـ«الدفاع عن قلعة فورت ماكهنري»، ويقول الشطر الثالث فيه «قل ألا تزال هذه الراية الموشحة بالنجوم ترفرف/ على أرض الأحرار وموطن الشجعان؟».
ولم يرد عن الآباء المؤسسين الذين وضعوا وثيقة الحقوق (التعديلات العشرة الأولى من الدستور الأميركي) أنهم دعوا إلى اعتبار الوقوف للنشيد الوطني واجباً على الأميركيين أو دليلاً على وطنيتهم، وهؤلاء دون شك ليسوا أقل وطنية من ترامب.
إن الركوع يدل على أن الرياضيين أميركيون شجعان يتطلعون للحرية والعدالة.. وهذا أبسط حقوقهم المدنية والدستورية التي لا يرعوي الرئيس المناط به حماية الدستور عن مهاجمتها وتحقيرها بأقذع الألفاظ، مختبئاً خلف الدفاع.. عن العلم علّه يكسب بعض النقاط هذه المرة.
Leave a Reply