عرب أميركا بين الإنتخابات والفضائيات
لا يصعب التحقق من مدى إهتمام الجاليات العربية الأميركية بالشأن الإنتخابي الذي شهدنا إحدى أكثر مظاهره زخماً وتنافساً في الجولة التمهيدية التي جرت يوم «الثلاثاء الكبير» في أربع وعشرين ولاية أميركية وغطت مساحة الولايات المتحدة من المحيط الأطلسي شرقاً حتى المحيط الهادئ غرباً. فالحديث عن هذه الإنتخابات التي لا تقرر مصير القضايا الأميركية الداخلية بأوجهها الإقتصادية والإجتماعية والحقوقية وحسب، بل مصائر قضايا خارجية تنتصب قضايا العرب في صلبها، لا يبدو مُغرياً ولا شعبياً، في أوساط العرب الأميركيين، على الأقل في معقلهم الرئيسي في ولاية ميشيغن، الذين لا يعتبرون هذه الإنتخابات «شأنا هاما» طالما أن نتائجها لن ترتب أي تغيير يُذكر على السياسات الأميركية تجاه الشرق الأوسط وصراعاته. وطالما أنهم (اي العرب الأميركيين) يعيشون دائماً الإستنتاج المسبق أن مشاركتهم في العملية السياسية أو عدمها لن تغير من واقع الحال شيئاً. لذا نرى أن الجاليات هذه تتعاطى مع هذا الفصل المتواصل من الديمقراطية الأميركية من باب الفضول لا من باب الإهتمام الذي يرتب واجبات اقلّها المشاركة في العملية الإنتخابية بصرف النظر عن النتائج المرجوة منها.
غير أن تفرجنا على الإنتخابات الرئاسية 2008 لا يشبه ما اعتدنا عليه في هذه الإنتخابات طيلة العقود الماضية، لأنها لا تشبه سابقاتها من أوجه عديدة أهمها واخطرها أن أميركا في حالة حرب فعلية وإن لم تكن معلنة مع العرب والمسلمين في بلدانهم قاطبة، تحت شعار يجمع الأميركيين من مختلف إتجاهاتهم المحافظة والليبرالية وهو شعار «الحرب على الإرهاب» أو «الحرب ضد الجهاد» بمفهومه الإسلامي، كما وصفه المرشح ميت رومني وهو يعلن تعليق حملته الإنتخابية يوم الخميس الماضي، «لعدم الإفساح في المجال أمام هيلاري كلينتون أو باراك أوباما لتحقيق الفوز الرئاسي» وبالتالي الإنسحاب من «المعركة ضد الجهاد» سواء في العراق أو أفغانستان أو ضد إيران والحركات الإسلامية الأصولية المتأثرة بها، كما يعتقد رومني.
على أن نتائج الإنتخابات الرئاسية لن يقتصر مفعولها على السياسة الخارجية، شأنها شأن كل الإنتخابات التي يحمل المرشحون إليها برامج إقتصادية وإجتماعية وحزمة من مشاريع القوانين المرتبطة بها ولعل أهمها هذه الآونة قانون إصلاح الهجرة الذي يعنينا كعرب أميركيين بقدر ما يعني سائر الأقليات وعلى رأسها الأقلية اللاتينية التي اندفعت في حشد أصواتها للمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون في أكبر معاقل اللاتينيين في ولاية كاليفورنيا.
الأسبوع الماضي جذبتني مقابلة على شاشة «سي إن إن» جمعت بين أحد أبرز مقدمي البرامج على الشبكة «لو دوبز» ومدافعة عن حقوق الأقلية اللاتينية، كانت أقرب إلى محاكمة مباشرة على الهواء لهذا الإعلامي البارز الذي يعتنق عقيدة مناهضة للهجرة غير الشرعية ويحمل لواء مكافحتها في حلِّه وترحاله، وهو كان قد حل في منطقة ديربورن قبل أسابيع قليلة للترويج لحملاته المناهضة لتشريع الهجرة غير الشرعية والداعية إلى الحد من الهجرة وتسوير أميركا بجدران عازلة جغرافية وقانونية. المساحة التي أعطيت لهذه المدافعة عن حقوق اللاتينيين تعدت العشرين دقيقة، وتخللتها مشادات متلاحقة مع المقدم الذي جهد في إبعاد الإتهام الموجه إليه بكرهه للمهاجرين حيث أصرت تلك المرأة على التفريق بين «الخطاب الحر» و«خطاب الكراهية» الذي اتهمت دوبز باستخدامه.
اللاتينيون لا يتعرضون إلى تمييز حقوقي على المستويات الإعلامية والعملانية بأقل مما يتعرض له العرب الأميركيون، وليس للأقليات اللاتينية مشكلات مع السياسة الخارجية الأميركية. لم نسمع مثلاً أن اللاتينيين في كاليفورنيا أو تكساس قد ناصروا هوغو شافيز جهراً أو سراً في معركته الإعلامية مع أميركا والغرب ولم تحدث إحتفالات في صفوفهم عندما أعلن الرئيس الفنزويلي عن شمه «رائحة شياطين» من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، يكافح اللاتينيون من أجل إثبات إنتمائهم لأميركا ويعملون ليل نهار على إيجاد حل لمعضلة مهاجريهم غير الشرعيين ويندفعون بأصواتهم الإنتخابية لدعم المرشحين المناصرين لقضايا الهجرة، فيما ننشغل نحن العرب الأميركيين بخطابي الرئيس الإيراني أحمدي نجاد والفنزولي تشافيز في المقر الأممي ونواكبها بـ«التحليل» والتبجيل ونحزن لمحاولة إهانة نجاد من قبل رئيس جامعة كولومبيا ونصرف السهرات واللقاءات في الحديث عن هذا «الحدث»، بينما لا نعثر على حافز لكي نخرج يوم الإنتخاب إلى الإدلاء بأصواتنا! لم نتعلم بعد من الجاليات المؤثرة في صناعة السياسة الأميركية إنتخاباً وممارسة يومية. لم نفكر يوماً على سبيل المثال لماذا عندما يحضر أي مسؤول إسرائيلي في زيارة إلى البيت الأبيض يكون هذا البيت محطته الأخيرة، بعد محطات عديدة لدى الجاليات اليهودية المنتشرة في أميركا بينما يكتفي الزوار العرب «الكبار» بهيبة اللقاء مع سيد البيت الأبيض دون أي إلتفات لملايين العرب الأميركيين المنتشرين في هذه البلاد. لم نسأل أنفسنا يوماً عن مدى «إهتمام» الحكام العرب في أقطارنا بجالياتها الأميركية خارج نطاق التغني بإنجازات المهاجرين وإسهاماتهم في إنعاش إقتصاديات بعض الأقطار العربية (لبنان مثلاً).
وما زاد على طين الإهمال لواجباتنا المدنية في هذه البلاد واهمها واجب المشاركة في العملية الديمقراطية، كان بلة غزونا قبل أكثر من عشر سنوات بواسطة جحافل الإعلام الفضائي العربي الذي احتل صالوناتنا وغرف نومنا وشرع في تذكيرنا بثقافة الإنقسام والتعصب الطائفي والسياسي اللذين كانا من أبرز أسباب «جلائنا» عن أوطاننا إلى هذه البلاد التي لم نفلح في ترجمة إنتمائنا إليها بأبعد من إمتلاك وثيقة الجنسية أو جواز السفر.
بالطبع أحدثت إعتداءات 11 ايلول الإرهابية نكسة كبيرة في جهود العرب الأميركيين للإنخراط في العملية السياسية الأميركية وحدث نكوص خطير عنها، غير أن إلقاء اللوم على هذه الإعتداءات وتداعياتها لا يعفينا من المسؤولية ويتطلب تفحصاً أكثر جدية لواقعنا كعرب أميركيين وإيلاء أعظم لأهمية الشروع في العمل على تغيير النظرة إلينا. وهذا لا يكون باعتناق مبدأ السلبية بإزاء كل ما يتصل بالحياة السياسية الأميركية.
ثمة إعتقاد يصل إلى حد الإتهام تبثه مختلف وسائل الإعلام الأميركية أن العرب الأميركيين أكثر ولاء لأنظمة في الشرق الأوسط متهمة برعاية الإرهاب وصناعته وتصديره، وقد حفلت محطات تلفزه وصحف ووسائل إعلام إلكترونية بالكثير من المقالات والتقارير عن وجود «خلايا إرهابية نائمة» في صفوف العرب الأميركيين (ديربورن مثلاً). لا يبدو أننا أفراداً وجمعيات معنيون بدحضها أو الرد عليها باعتبارها خطاب كراهية مثلما يفعل اللاتينيون الذين ليس لديهم مشكلة شبهة بالإرهاب كتلك التي يحاول الإعلام وصمنا بها. ولكننا نتقوقع عوضاً عن ذلك أمام الشاشات الفضائية العربية و«نفش خلقنا» بالسياسة الأميركية المنحازة عبر الإنشداد إلى الخطاب الإعلامي الغوغائي والتحريضي الذي يحوّلنا إلى «مخلوقات فضائية» لا علاقة لها بما يدور في البيئة الأميركية وبكل ما يتصل بها، من حالة الطقس الى خطاب «حالة الاتحاد» ناهيك عن اعتبار الكثيرين ان الثقافة الانتخابية هي ثقافة ممقوتة في اسوأ توصيف وغير جذابة في افضل الاحوال.
الخطير في هذا الانشداد الى الماضي الذي تمثله الفضائيات العربية بمعظمها انه الى كونه يعيد هذه الجاليات الى «سيرتها الاولى» من العصبية الطائفية والمذهبية او يسهم من جديد في شرخها نفسياً واجتماعياً، يؤدي بها الى الانقطاع «العدائي» في بعض الاحيان عن كل ما يرمز الى اميركا التي نعيش ونعمل فيها ويتعلم في مدارسها وجامعاتها ابناؤنا وبناتنا ونتلقى العلاج في مستشفياتها غالباً على «حساب الحكومة الاميركية». ويتحدث ابناؤنا بلغتها:
اسهمت هذه الفضائيات في تغذية الكراهية بين صفوف المهاجرين وقسمتهم تبعاً للانقسام في بلادهم العربية. لو اخذنا مجتمع الجاليات اللبنانية لظهر الامر جلياً: هنالك شاشات «عدوة» غير مرغوب فيها واخرى صديقة او حليفة مرحب بها: محطتا «إن.بي.ان» و«نيو.تي.في» وحديثاً «البرتقالية» تبث لجمهور 8 آذار و«المستقبل» والـ«ال.بي.سي» لجمهور 14 آذار. و«الجزيرة» و«العربية» تتحايلان لاظهار «الموضوعية» والحياد دون ان ينجحا والعرب الاميركيون، اللبنانيون منهم على الاخص فرائس سهلة لهذه الملاحقة غير الشريفة لجمهور من المشاهدين يفترض انه خرج من سجون الخطابة ونشرات الجلد على رأس كل ساعة، فاكتشف ان السجن والجلاد عادا وتسللا الى بيته عبر البث الفضائي العابر للمحيط!.
Leave a Reply