ثمة مقولة شائعة في لبنان منذ عهده بالزعامة الجنبلاطية مع الراحل كمال جنبلاط ثم مع نجله وليد الذي ملأ الفضاء اللبناني بـ«المواقف المتناقضة» طيلة السنوات الثلاث الماضية، أنك إذا أردت معرفة الإتجاهات التي ستسلكها أي أزمة داخلية عليك بتسليط أجهزة إلتقاطك نحو «الهوائي الجنبلاطي» فهو الأقدر على رصد هذه الإتجاهات وبث مساراتها في الساحة السياسية عندما تختلط الأمور وتتشابك ويعصى فهمها على المتابعين «العاديين».المواقف الأخيرة التي أدلى بها رئيس اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط والتي مثلت إنعطافة مفاجئة و«صادمة» بالمعنى الإيجابي في ظل الأجواء السلبية السائدة التي علقت رئاسة الجمهورية اللبنانية في «خزانة الفراغ» إندرجت في سياق هذه المقولة التي يبدو أن المتابعين للأوضاع اللبنانية المأزومة لم يشفوا منها، رغم «جزم» الكثيرين بأن الرجل قد فقد صوابه السياسي عندما إنبرى وحيداً أو شبه وحيد في التصدي للإرادة السورية في لبنان قبل أن تتزعزع مع مفاعيل القرار الدولي 1559 وزلزال إغتيال الرئيس رفيق الحريري وينتج عن ذلك الإنكفاء السوري العسكري المدوي عن لبنان في ربيع العام 2005. ثم المواجهة السياسية الحامية التي خاضها مع المعارضة وركنها الأساسي «حزب الله». خلال زيارته الأخيرة لواشنطن أطلق وليد جنبلاط موقفاً تأرجح بين الجدّ والهزل عندما سُئل في ندوة نظمها له معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى في العاصمة الأميركية عما يمكن للإدارة الأميركية أن تفعله لمساعدة «ثورة الأرز» على الصمود في وجه التحديات الماثلة أمامها. قال جنبلاط بـ«عفوية»: «أرسلوا سيارات مفخخة إلى دمشق». وإذ أثار رده هرجاً في صفوف الحضور وتعليقاً من مدير المعهد «أننا نفعل أي شيء إلا هذا»، سارع جنبلاط إلى التوضيح أنه كان يمزح وأوحى أنه لم يجد إجابة على هذا السؤال الأميركي المتكرر غير السخرية من عدم قدرة الأميركيين في المساعدة على وضع حد لمسلسل الإغتيالات والتفجيرات بالسيارات المفخخة الذي يتهم جنبلاط السوريين بالوقوف وراءه.عاد جنبلاط من واشنطن محملا بسلة وعود أميركية لم تبخل عليه وعلى فريقه في «ثورة الأرز» بالتعهد بالعمل من أجل الحفاظ على منجزات هذه الثورة وعدم تركها لقمة سائغة للمحور السوري – الإيراني المتربص بها.ترجمت الإدارة الأميركية هذه الوعود بإجراءات من نوع منع دخول بعض رموز المعارضة اللبنانية مثل وئام وهاب وميشال سماحة وناصر قنديل وبعض المسؤولين الأمنيين السوريين الى الأراضي الأميركية، وهي إجراءات أثارت سخرية جنبلاط الذي كان يطمح الى ضغوط أميركية حقيقية لحماية «ثورة الأرز»، إلا أنها لم تحدث. كانت الإنتخابات الرئاسية تشرف على الدخول في مهلتها الدستورية وسط حالة من الإستقطاب الداخلي والإقليمي كانت تتهددها منذ لحظتها الأولى بمخاطر الفراغ الذي وصلت إليه الجمهورية مع إنتهاء المهلة وعدم نجاح كل «الجهود العالمية» في إخراج إستحقاقها الرئاسي من حلقته المفرغة.ومع دخول الجمهورية في الفراغ الرئاسي الذي دخل أسبوعه الأول دون أن تلوح في الأفق أية إحتمالات للخروج منه وسط إجماع سياسي على النعي المسبق لجلسة الثلاثين من الشهر الجاري (تأجلت مرة سادسة الى 7 كانون الأول) المقررة لتكرار محاولة ملء الفراغ، خرج النائب وليد جنبلاط بمواقف فاجأت الحلفاء قبل الخصوم، بدا فيها الرجل منقلباً على أحدث مواقفه المتشددة في الشأن الرئاسي وإمتداداته المحلية والإقليمية، لابساً عباءة «الإعتدال» ومبدياً
عدم الإستعداد لتنفيذ القرارات الدولية «على جثثنا» ومغلبا الوحدة الوطنية على أي إعتبار، في إتصال أجراه مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري، مؤكدا في الوقت ذاته عدم إستعداده لإنتخاب رئيس بنصاب أقل من الثلثين بعدما دأب في الأسابيع السابقة على «التهديد» بهذا الخيار ليل نهار.في أحدث المواقف الجديدة للنائب جنبلاط وهو ينظر إلى مشهد لقاء آنابوليس والحضور السوري فيه وإن بمستوى أقل من مستوى الحضور العربي الآخر، تناول جنبلاط ما أسماه «إنفتاح البازار الأميركي – السوري» مبدياً خشيته من شطارة السوري في «المفاصلة» والمقايضة ومشككاً بقدرة الأميركيين على مجاراتهم هذه الشطارة.بدا الكلام الجنبلاطي نذيراً لولادة شيء ما من عسر المخاض الرئاسي قبل أن يطل أحد نواب تيار المستقبل بالمبادرة – المفاجأة التي يتبنى فيها هذا التيار الحليف للزعيم الدرزي تعديل الدستور اللبناني بمادته التاسعة والأربعين لأجل تمهيد الطريق لوصول قائد الجيش ميشال سليمان إلى القصر الجمهوري، والتي مثلث حجراً كبيراً ألقي في المياه الرئاسية الراكدة في يومها الخامس. واكب جنبلاط هذه القنبلة الإعلامية، التي يعتقد بقوة أنه غير بعيد عن طبختها، بموقف صارخ الدلالة مفاده أننا إذا وضعنا أمام خيار إستمرار الفراغ ومخاطره على السلم الأهلي الهش وخيار تعديل الدستور لإنتخاب قائد الجيش الذي يرضى عنه الجميع نظراً لدوره الحيادي في الأزمة القائمة ولإنجازه الكبير في معركة «نهر البارد» فإننا بالتأكيد مع الخيار الثاني.كان قائد الجيش في هذه الأثناء يجول على القيادات السياسية والدينية محذراً من قنبلة موقوتة (الفراغ) وضعت بين يديه وقد تنفجر في أي لحظة، ولم يكن شيئاً عديم الدلالة حادثة الإشتباك الدموي الذي إندلع في أحد أحياء طرابلس بين «حركة التوحيد» المقربة من سوريا و«أفواج طرابلس» المحسوبة على تيار المستقبل بزعامة الحريري.كان الوسطاء العرب والدوليون قد ودعوا أطراف النزاع في اليوم الأخير من الأيام العشرة المسكونة «بالشر المستطير» فيما أنظار حكوماتهم تتجه نحو مدينة أنابوليس الأميركية التي لم يعد من الجائز للعاصمة اللبنانية بيروت أن تنافسها على صدارة الإهتمام. في آنابوليس الأميركية كان الجوّ الإحتفالي طاغيا والشعور «بالإنجاز الكبير» يقرأ على وجه الرئيس بوش وهو يشهد ثمرة الغرسة التي زرعتها وزيرة خارجيته في صحراء السلام الشرق أوسطي المهجور، وبدا مصراً على سقايتها بماء الكلام عن إلتزامه بقيام الدولة الفلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل «اليهودية» وبالإشارة إلى منع «المتطرفين» من عرقلة جهود السلام المنطلقة من محطة آنابوليس، بمواعيد وصول إلى «حل» في نهاية العام القادم.لم يتطرق بوش، هذه المرة، إلى سوريا في معرض هجومه على «محور الشر» وبدت سوريا كمن يخطو أول خطوة في إبتعادها عن هذا المحور، فيما فضاء طهران يملؤه صراخ التنديد بـ«أنابوليس» من المرشد الأعلى نزولاً إلى عناصر الباسيج المتجمهرين أمام السفارة الأردنية إحتجاجاً على المشاركة العربية والإسلامية في «المؤتمر الخريفي الفاشل» على حدّ وصف خامنئي، ومناشدة سوريا بأن «تخجل» من مشاركتها كما هتف المتظاهرون. هذه الخطوة السورية هي ما أدخل الشك إلى قلب جنبلاط من شبح صفقة أميركية-سورية على حساب لبنان وخشيته من أن يكون حديث بوش عن «حيوية الديمقراطية اللبنانية» في آنابوليس مجرد غلالة شفافة لتخلّ أميركي وشيك عن «ثورة الأرز» لصالح عودة دور سوري إلى لبنان وإن من بابٍ آخر هو باب تطويع الذراع الإيرانية الأقوى في المنطقة، «حزب الله» ولجمها.فهل تصدق هواجس جنبلاط الذي بدا مستعداً هذه المرة للتعايش 50 سنة مع سلاح «حزب الله» ولكنه يتهيّب إحتمال عودة الدور السوري إلى لبنان ولو ليوم واحد؟ «الإعتدال» الجنبلاطي المفاجئ بدا كردة فعل غريزية على «الإعتدال» السوري الذي بدأنا نشهد أولى حلقاته في الخروج «الهادئ» للرئيس إميل لحود من قصر بعبدا وثم في قرار إلغاء دمشق لقاء التنظيمات الفلسطينية المعارضة لمؤتمر آنابوليس وأخيراً عدم تلبية هذه التنظيمات دعوة إيرانية لزيارة طهران بالتزامن مع المؤتمر الذي أحرج الحضور السوري فيه الحلفاء اللبنانيين والفلسطينيين وأزعج بشدة الحليف الإيراني «الإستراتيجي» الذي فوجئ بالخطوة السورية «غير المنسقة».فهل يطلع علينا النائب جنبلاط يوماً ما قريباً برغبة الإنضمام إلى الحلف الثنائي بين «حزب الله» والجنرال عون على قاعدة «الأذى المشترك» من عودة ما لدور سوري من نافذة «آنابوليس» المكروه إيرانياً.قد يبدو هذا السؤال من باب الهرطقة، لكن ألم يكن من الهرطقة توقع إرتفاع هتافات في طهران تقول: إخجلي يا سوريا؟
Leave a Reply