لم يفاجئ إعلان رئيس الوزراء اللبناني المكلف سعد الحريري اعتذاره عن تشكيل “حكومة الوحدة الوطنية” أي مراقب أو مطلع على مجريات التطورات السياسية في لبنان. فالحريري الذي أمضى 73 يوما في محاولته تقديم تشكيلة ترضي كل الأطراف بمن فيهم حلفاؤه وخصومه على حد سواء، كان يدرك منذ لحظة تكليفه تشكيل الحكومة من قبل رئيس الجمهورية بناء على الاستشارات النيابية الملزمة أن لا منافس له على الساحة السنية، وعلى ضوء ما أفرزته الانتخابات النيابية الأخيرة من فوز لتياره والجماعات الأخرى المنضوية في تحالف “14 آذار”.
لكن الحريري كان يدرك بالمقابل، أن المهمة التي تصدى لأدائها تتعدى في تعقيداتها وامتداداتها الحدود الداخلية للعبة السياسية، وأن الحصول على التسمية بأكثرية نيابية معتبرة (86 نائبا من أصل من 128) لم تكن كافية لتمهيد الطريق أمامه لوراثة دور والده الراحل رئيس الوزراء الأسبق الشهيد رفيق الحريري الذي أتقن فنون اللعبة وتوازناتها ومحاذيرها ونجح في السير بين ألغامها لسنوات طويلة قبل أن ينفجر لغم اعتياله بصاعق سياسي لم يكن في حسبان الراحل أو في حسبان قوى كثيرة أربكتها عملية الاغتيال، ليدخل لبنان بعدها في متاهة سياسية وأمنية لايزال اللبنانيون يدورون فيها على أنفسهم، من غير أن يتمكنوا من إيجاد مخرج آمن يقيهم شرور الانقسامات ونذر الحروب الداخلية التي دقت أبوابهم أكثر من مرة في سنوات الأزمة الأخيرة.
صحيح أن سعد الحريري عزز موقعه داخل طائفته وبات زعيما لها بلا منازع، وأن إسلاس سنة البلاد لزعامته فاق ما قدموه لوالده لأسباب عديدة، أبرزها شعورهم بالاستهداف دورا ووجودا، لكن الصحيح أيضا أن هذا الإطلاق لزعامة سعد الحريري حمل معه تحديات ومعوقات داخلية وعربية واقليمية لم يواجهها والده في فترة ترؤسه لحكومات ما بعد الطائف بصورة شبه متواصلة.
ولكن الثابت أن سعد الحريري لم يخفق في تشكيل “حكومة وحدة وطنية” لبنانية صرفة، بل أخفق في تشكيل حكومة عربية-إقليمية-دولية، ذات واجهة لبنانية و”ديكور داخلي” لبناني. فكما لا يخفى على أي لبيب أن الأطراف الخارجية كانت ولاتزال ممسكة بالقرار اللبناني إلى حد مصادرته بصورة شبه تامة.
فأحد أبرز اللاعبين الداخليين رئيس مجلس النواب نبيه بري صاحب مقولة تحولت لديه إلى “عقيدة” وملخصها أن محور سين-سين (سوريا-السعودية) وحده كفيل بإخراج الأزمة من عنق الزجاجة العالق فيه، ولاحقا انضم إليه أحد أبرز أركان وصقور تحالف 14 آذار السابقين الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، الذي سرع خطاه باتجاه تعزيز نفوذ هذا المحور لأسباب طائفية قبل أن تكون وطنية، دليل ذلك مجاهرته بأن للطائفة الدرزية خصوصية يجب على الحلفاء مراعاتها وبالتالي عدم لومه على انقلابه الحاد على حلفاء الأمس.
كان الرهان على عودة الدفء إلى خط “سين-سين” كبيرا لدى رئيس المجلس النيابي الذي تعجل في التبشير بولادة الحكومة قبل نهاية شهر تموز (يوليو) الماضي، وكان من شأن انقطاع حرارة التواصل على ذلك المحور والعطب الذي أصاب قطار الانفتاح بين الدولتين في منتصف الطريق أن جعل الرئيس بري يدخل في مرحلة صوم عن الكلام لاتزال ممتدة حتى الآن، وانضم إليه فيها النائب وليد جنبلاط الذي يجهد في محاولة الظهور في “منزلة بين المنزلتين” واللعب في “الوسط” مغازلا الحالة غير المكتملة التي حاول رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان إرساءها ولم يفلح، بسبب حدة الانقسام المذهبي والسياسي الذي طبع الانتخابات النيابية وقانونها “الستيني” الذي كرس فدرالية الطوائف وشرعن حالة التشرذم الوطني معيدا البلاد إلى أجواء ما قبل الحرب الأهلية واتفاق الطائف الذي أنهاها وأريد له أن يكون معبرا إلى حقبة جديدة من التعايش الوطني، لكنه أهمل على أيدي صانعيه لسنوات طويلة، ويخشى الآن أن التغييرات التي طالت المنطقة برمتها قد تجاوزته ولم يعد كافيا لمنع “الشعوب اللبنانية” و”قبائلها” من التعارف الوطني.
لقد قيل الكثير في أسباب أزمة التأليف الحكومية. ولا ترعوي بعض الأقلام اللبنانية والعربية عن محاولة تضليل اللبنانيين بحكايات “الثلث الضامن” و”الصهر المعطل” و”الشراكة الحقيقية”، لكن القليل يقال عن الأسباب الحقيقية لأزمة الحكومة المشرفة على التحول إلى أزمة نظام وحكم، والمتمثلة باعتبار لبنان بمكوناته الطائفية والسياسية مجموعة من الأوراق الرابحة حتى الآن، في لعبة المصالح الاقليمية والدولية، وتوظيفها في بازارات التفاوض على ملفات اقليمية ساخنة تبدأ في أفغانستان وتمر بالعراق وإيران وصولا إلى فلسطين.
فما جرى خلال الأيام الثلاثة والسبعين التي مضت على تكليف النائب سعد الحريري تشكيل “حكومة وحدة وطنية” لم يتجاوز كونه اختبارا لمدى فعالية وصمود تلك القوى الخارجية في جبهاتها المتقابلة على أكثر من ساحة، والاعتذار الذي وجد الحريري الابن نفسه مضطرا إلى إعلانه يرتبط بأصول تلك اللعبة الخارجية التي لم يكن بمقدور أقطابها، لسوء حظ اللبنانيين، التعايش حول تسوية ولو مؤقتة لإدخال الملف اللبناني في عهدتها، وإعطاء هذه البلد فرصة للتنفس والتفرغ لمشاكله الاقتصادية والاجتماعية الضاغطة، وهي للمناسبة مشاكل تحظى “أولوية” معالجتها بإجماع زعماء الطوائف الذين لو صدقوا مع “جماهيرهم” لأبلغوهم بأن “العين بصيرة لكن اليد قصيرة”.
فهل بمقدور اللبنانيين الذين سمعوا كلاما كثيرا من الأقربين والأبعدين عن “زهدهم” بالتدخل في شؤونهم، وبأن مسألة تشكيل حكومتهم بعد الانتخابات هي شأن داخي محض.. هل بمقدروهم اجتراح معجزة التوافق وإلزام الخارج بمباركته؟
ربما. وهذا ما كان يطمح إليه رئيس المجلس النيابي نبيه بري الذي ملأ الدنيا اللبنانية كلاما عن ضرورة سرقة الفرصة المتاحة أمام اللبنانيين في تلك اللحظة الاقليمية النادرة التي تلت إجراء انتخابات بلا مشاكل. لكن يبدو أن تلك الفرصة، لو صح وجودها، قد طارت، وعاد اللبنانيون إلى القفص الذي أخرجوا منه أو توهموا ذلك، ليكونوا مرة جديدة رهينة الانتظار في ملفات الأزمة الأكبر، في إيران والعراق وأفغانستان وفلسطين.
هكذا أخفقت عملية التكاذب والتذاكي التي قادها رموز الأزمة الداخليين، وعاد كل منهم إلى حليفه الخارجي للتشاور حول الجولة المقبلة من المناكفات الداخلية، التي يأمل اللبنانيون المستسلمون لأقدارهم أن لا تنتقل إلى شوارعهم وزواريبهم في عمليات ممارسة الضغوط المتبادلة بين أرباب اللعبة المتخفين وراء ستارة مسرح الدمى اللبناني الذي يطلق عليه المخرج الموهوب شربل خليل اسم “دمى قراطية” وهو حقا اسم على مسمى!
إعتذر الحريري عن عدم اتمام مهمته، وبصرف النظر عن احتمال عودته إلى هذه المهمة من عدمها، لكن يخشى ألا أحد “سيعتذر” من اللبنانيين عما أصابهم وسوف يصيبهم من ويلات وأهوال إذا استمر عرض “مسرح الدمى” اللبناني، في اجتذاب جماهير الطوائف إلى هذه اللعبة المغرية، والخادعة والتي قد لا تنتهي قبل انهيار المسرح فوق رؤوس الجميع ساعة لا ينفع ندم!
Leave a Reply