قبل مئة سنة، كان عمري عشرون سنة، كنا نعيش في قرية جميلة من قرى جنوب لبنان. إحدى عصريات شهر أيلول، كنت أجلس مع أبي تحت العريشة نأكل تيناً وعنباً ونتحدث كالأصدقاء. بعد صمت قليل، نظر أبي إليّ وقال: شو بك يا بنتي؟ شايفك هاليومين مهمومة ومحتارة، ملبكة مثل هالسما، لا هي مغيمة ولا هي مشمسة. وصايرة مثل جارتنا نجيبة الخوتا اللي ما بتعرف راسها من مداسها؟ وقتها احترت بماذا أجيب أبي. رغم اننا كنا أكثر من رفاق وأصدقاء. نظرته الحانية وابتسامته شجعتني لأقول له: أريد تنفيذ رغبة أمي، تريدني أن أتزوج. سأتزوج يا أبي!! شو رأيك؟
أجابني أبي مبتسماً إبتسامته الخفيفة الجميلة: على حد علمي إنك يا بنتي شاطرة وبتفهمي وأنا شايف حالي فيك، شو اللي صار حتى طار عقلك، إنجنيّتِ؟ في حدا بهالكون عاقل وبيفهم وبيتجوز؟ وتابع كلامه إلي: على أساس بدك تتعلمي وتاخذه شهادة وتكوني واحدة من هالجيل الجديد يللي بيعيط ليل نهار أنو بدو يغير ويبدل هالأيام نحو الأحسن، ويحرر القدس من اليهود ويصير فيه إشتراكية ومساواة بين أبناء الوطن الواحد، الوطن العربي الكبير، وقومية وشيوعية وحرية وثورجية حتى النصر. كل هذا الكلام نسيتيه وطق براسك الزواج هلق؟ يا بنتي بعدك زغيري والعمر قدامك، طولي بالك شوي وشو بدك بالغلطة الشنيعة والزواج والإرتباط؟
كنا في منتصف السبعينات من القرن الماضي. بوسطة عين الرمانة دعست على القديم والجديد من أحلامنا نحن الشباب ذلك الوقت، وعجلاتها ساقت لبنان إلى حروب داخلية وخارجية على أرضه. راحت الحرب تدمر كل شيء. بدأت الناس تنقسم، وبدأ اللبنانيون يتقاتلون بشراهة وشهية فظيعة، وبدأت الأحقاد والطائفية تظهر بجلاء. هذا ما شرحته للرفيق والدي وقلت له أن الحرب الأهلية اللبنانية والقوى الرجعية العربية، وإسرائيل، أدخلتنا في دوامة من الجنون وعدم الوعي. وهذا سبب رئيسي جعلني أقبل بالزواج بشاب أفرزته الحرب اللبنانية بهجرته من بيروت ولجوئه إلى الضيعة.
عدا عن ذلك يا أبي، أمي تقول لي دائماً: كل بنات جيلك تزوجوا وصار عندهم أبناء وبنات، وإنك عنيدة وجوابك على طرف لسانك مثلك يا أبي ومستحيل أن أجد رجلا يتزوجني، فهل أنا كذلك يا أبي؟
أجابني والدي: لا تردي عليها – أي على أمي – الزواج مش شغلة بسيطة ولا غلطة سهلة بالحياة، فيك تكوعي، وتصلحيها ساعة ما بدك. الزواج مسؤولية والتزام، هل أنت يا إبنتي مستعدة لذلك؟ وبعدين إذا صار الكل مجانين، بتلبسي عينيك بالمقلوب وبترمي عقلاتك بالوادي وبتقبلي تكوني مثل هالدجاجات تك تك، تعي تعي، روحي روحي. خليكي حرة مثل هالعجلة الصغيرة اللي وراء أمها وما تقبلي تحطي رسن برقبتك من أول عمرك؟
وقتذاك كانت الكلمة الدارجةعلى الألسن، يا رفيق، مثل كلمة «بيعقّد» الدارجة على لسانات البشر هذه الأيام. وشتان بين كلام اليوم وكلام زمان. كثيراً ما كان يحلو لي أن أنادي أبي: يا رفيق!!
ولأن الرفيق أبي كان فقيراً وأمياً ولكن حكيماً. أهداني قبل زواجي نصيحة ما زالت أحفظها في عقلي وقلبي: قال لي: ثلاثة أشياء يفسدن الزواج: النق والدق، وعدم معرفة الحق. النقّ هو عدوّ الزواج الأول، كيف يا أبي؟ قال: أن تنقيّ ليل نهار على زوجك بمطالب تكون فوق طاقته. وتعايريه بفلان وعلان من التجار الشاطرين بالإستغلال والإحتكار وما في عندهم رحمة للأهل أو للجار.
وأما الدق: فهو التدقيق بكل كبيرة وصغيرة: وين رحت، وين جيت، وشو قالتلك إمك أو أختك؟ وليش تأخرت وليش نسيت عيد ميلادي وعيد زواجنا، فيشعر الزوج أنه محاصر في بيته ومتزوج من شاويش البلدية الذي يطلب التحقيق معه على الرايح وعلى الجايي.
وأما عدم معرفة الحق، فهو عدم معرفة الله. الله هو الحق يا إبنتي ومن كان الله في قلبه يستطيع أن يميّز بين الخير والشر ويلجم الشيطان الوسواس في صدره، ويكون قلبه عامراً بالإيمان بالله القادر الواحد، ذلك الإيمان يوّلد لديك قوة إيجابية للصبر وللفهم وللتسامح مع الجميع، وختم أبي حكمته لي: الدرس الأول في الزواج هو الإنصات بانتباه. والدرس الأخير في الزواج هو إستعمال الأذنين أكثر من اللسان. وأن النعمتان المجهولتان في الدنيا: الصحة والأمان.
هذا ما قاله لي أبي قبل مئة سنة، لكن الذي لم يقله أبي أن للرجل أنتيناً جيداً للإستقبال، وبطيئا عند الإرسال، وأنه أي الزوج لا يحمل صفة التلقائية مثل المرأة، الرجل يحتاج لبعض الوقت لكي يجيب عن سؤالها وطلبها بشكل مقنع. وإن تأخر بالإجابة، فلا يعني إنه غير مهتم بها.
لم يخبرني أبي أن الرجل أحياناً، لا يعلم أن المرأة ترغب في الحديث وإخراج ما في نفسها ولا تطلب منه إيجاد حل لمشكلة ما. هي ترغب في حسن إصغاء زوجها لحديثها أكثر من أي شيء آخر.
كنت أتمنى لو أن والدي أخبرني أن الرجل هو ايضا من فصيلة بني البشر، يحلم ويحزن ويخاف ويحتاج إلى مساحة خاصة، أحياناً يفضل الإبتعاد والعزلة ليخلو بنفسه ليراجع أفكاره وقدراته وأن على الزوجة إحترام رغبته في الإبتعاد قليلاً عنها وتنتظر بصبر عودته.
لم يلفت أبي نظري ويقول لي: إن لبعض الرجال عادات وسلوك من العسير تغييرها: مثل ترك جواربه المتسخة على الأرض، وعدم ترتيب خزانته وإغلاق بابها بعد فتحها. وعدم إعادة غطاء أنبوبة معجون الأسنان إلى مكانه. وعدم إقفاله للباب بعد خروجه وترك الأكواب على الطاولة وترك النور مضاءاً بدون حاجة. وفي هذه الحالة، إن من الأفضل للزوجة التعايش مع بعض سلبيات الزوج من دون تذمر أو شكوى، والتغاضي عن هفواته بمعاملته كالطفل في ما يخص إستخدامه لكل شيء في البيت.
أيضا لم يخبرني أبي أن القبول بالزوج، يلزم القبول بعائلته ويتوجب على الزوجة عدم فصله عن عائلته لأنه جزء لا يتجزء منها.
وأخيراً كنت أحب أن أسمع من والدي: إن أي علاقة زوجية لا تخلو من الخلافات والصدامات. وأن هناك طرقاً عديدة فعالة لحل الخلافات وتقوية العلاقات الزوجية. بالطبع أفضل تلك الطرق هي ألا يذهب الزوجان إلى النوم وفي قلب أحدهما شيء من الغضب إتجاه الآخر. وعدم السماح لأحد بالتدخل بينهما خصوصاً رجال الدين هذه الأيام، حيث أن تدخلهم بين أي زوجين «يعقّد» المشكلة ويزيدها إشتعالاً بنقل الكلام بين الطرفين.
كنت أتمنى وأتمنى أن أسمع أكثر من أبي، لكنه قال لي كل ما يعرفه. وهو لم يكن حكيم الزمان. وكذلك أنا، هذا كل ما أستطيع أن أقوله للفتيات، بناتي من الجالية، المقبلات على الزواج. مع تمنياتي لهن بزواج مبارك وسعيد. ولآباء هؤلاء الفتيات، الذين يقيمون لهن حفلات الأفراح الباذخة، ويدفعون الآلاف من الدولارات، وينشروا الصور بالجرايد والمجلات، فقط، ليكون حديث المجتمعات من رجال وسيدات أن عرس إبنتهم كان عرس الموسم!! لهؤلاء الآباء أقول: هل لديك الوقت ولو لبضع ساعات للحديث مع إبنتك العروس قبل الزفاف؟؟
الحقيقة التي ما زلت نادمة عليها، هي لو أنني اتبعت نصيحة أبي بالتريث قليلاً وعدم الزواج المبكر. لربما كنت أشعر اليوم أن عمري الحقيقي هو خمسون سنة فقط، وليس مئة وعشرون!!
Leave a Reply