صبحي غندور
قيل بعد حرب أكتوبر عام 1973، وعقب توقيع المعاهدة المصرية–الإسرائيلية، أنّ «لا حرباً من دون مصر ولا سلاماً من دون سوريا». وقد ثبت بعد خمسة عقودٍ مرّت على هذا القول، صحّة خلاصته حيث لم تحدث منذ ذاك الوقت حربٌ نظامية عربية–إسرائيلية، بمعنى حرب الجيوش التقليدية على الجبهات، رغم حدوث حروبٍ عديدة خلال هذه العقود، قامت بها إسرائيل ضدّ حركات المقاومة في لبنان وفلسطين. أيضاً، لم تحدث تسوية شاملة للصراع العربي–الإسرائيلي رغم المعاهدات التي حدثت بين إسرائيل ومصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية.
وقد مضى حتّى الآن أكثر من 11 سنة على التغيير الذي حدث في النظام المصري عقب «ثورة 25 يناير»، لكن لم يحدث بعد أيُّ تغييرٍ عملي في السياسة الخارجية التي اتبعتها القاهرة منذ توقيع اتفاقات «كامب ديفيد» عام 1978، وأكّدت الحكومات المصرية المتعاقبة منذ العام 2011 على التزامها بهذه الاتفاقات وبالمعاهدة مع إسرائيل. أمّا في الحالة السورية، فنجد أيضاً أنّ أكثر من عقدٍ من الزمن على الصراع الجاري في سوريا، لم يُغّير من السياسة الخارجية للحكم الحالي في دمشق ولا من تحالفاته الدولية والإقليمية، وهو أمرٌ سعت واشنطن وتسعى لحدوثه منذ حرب عام 1973، حيث نجحت الولايات المتحدة آنذاك في إخراج مصر من التحالف مع المحور السوفياتي وضمّها إلى الفلك الأميركي في المنطقة، الذي كانت فيه حينها عدة حكومات عربية بالإضافة إلى إيران–الشاه، وتركيا التي لا تزال أحد الأعضاء المهمّين في «حلف الناتو».
تداعياتٌ سلبية خطيرة حدثت في المنطقة العربية وجوارها الإقليمي في العقود الماضية منذ خروج مصر من الصراع العربي–الإسرائيلي، كان منها إمّا ما هو بفعل إراداتٍ وظروفٍ محلية أو بسبب تخطيطٍ وعدوانٍ خارجي، أو مزيجٌ من الحالتين معاً. فمن الحرب العراقية–الإيرانية في العام 1980، إلى الغزو الإسرائيلي للبنان واحتلال بيروت في العام 1982، إلى غزو صدام حسين لدولة الكويت في صيف العام 1990، إلى حرب الخليج الثانية في العام 1991، إلى مؤتمر مدريد وتوقيع اتفاقية «أوسلو» بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1993، إلى المعاهدة الأردنية–الإسرائيلية في العام 1994، إلى هجمات 11 سبتمبر في الولايات المتحدة عام 2001، إلى غزو العراق في العام 2003، إلى الحروب الإسرائيلية على لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة في أكثر من محطة زمنية خلال العقدين الماضيين، إلى ما تشهده المنطقة منذ العام 2011 من صراعاتٍ وأزمات أمنية وسياسية تُنذر بتغييراتٍ في كيانات بعض الدول وحدودها، وليس فقط أنظمتها الحاكمة.
وم تكن هذه التداعيات السلبية في التاريخ العربي المعاصر منفصلةً عن مجرى الصراع العربي–الصهيوني الممتد لحوالي مائة عام، ولا هي أيضاً مجرّد تفاعلات داخلية، «الخارج» منها براء!
يُرجِع بعض العرب سلبيات أوضاعهم الراهنة إلى هزيمة حزيران 1967، رغم مرور أكثر من نصف قرنٍ من الزمن على اندلاعها، بينما الواقع العربي الراهن هو نتاج تدهورٍ متسلسل تعيشه المنطقة العربية منذ اختار الرئيس المصري الراحل أنور السادات، السير في المشروع الأميركي–الإسرائيلي الذي وضعه هنري كيسينجر بعد حرب أكتوبر 1973، في ظلّ إدارة كيسينجر للسياسة الأميركية الخارجية. فمشروع وزير الخارجية الأميركي الأسبق مع مصر–السادات كان حلقةً في سلسلة مترابطة أوّلها إخراج مصر من دائرة الصراع مع إسرائيل، وآخرها تعطيل كلّ نتائج حرب عام 1973 الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وذلك من خلال إشعال الحروب العربية–العربية وتوريط أكثر من طرفٍ عربي لسنواتٍ عديدة فيها.
إنّ الحقبة السياسية بعد حرب 1973 (وليست النتائج السياسية لنكسة 1967) كانت بالنسبة للعرب هي الأخطر، لأنها أوجدت بذوراً للعديد من الأزمات القائمة الآن. فقد كانت حرب أكتوبر درساً لأميركا وإسرائيل في أنّ الهزيمة العسكرية الكبرى لمصر–عبد الناصر عام 67، والقوة الإسرائيلية الهائلة والمتفوقة في المجالات كلّها، والعلاقة الخاصة مع بعض الحكومات العربية.. هي عناصر لم تكن مانعة لحدوث «نصر أكتوبر» ولا لعدم استخدام النفط كسلاح في الصراع مع إسرائيل ومن يساندها، ممّا دفع بأميركا وبعض الدول الأوروبية إلى إعادة حساباتها في المنطقة، وإلى تأسيس نواة ما يُعرف اليوم باسم «مجموعة الدول الثماني»، والتي كان تأسيسها (في العام 1974 من خمس دول فقط) مرتبطاً بقرار حظر تصدير النفط إلى الغرب خلال العام 1973.
إنّ المنطقة العربية انتقلت من حال النتائج الإيجابية لحرب 1973؛ بما فيها القيمة العسكرية لعبور قناة السويس، وظهور القوة المالية والاقتصادية والسياسية للعرب آنذاك، ثمّ القرار الذي أعلنته الأمم المتحدة بمساواة الصهيونية بالعنصرية.. إذا بها تنتقل من هذه الإيجابيات الدولية، ومن حال التضامن العربي الفعّال.. إلى إشعال الحروب العربية–العربية، والحرب العراقية–الإيرانية، وتصاعد العدوان الإسرائيلي على لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة. فكانت نتائج تلك المرحلة ليست في تعطيل دور مصر العربي فقط، بل بفتح الأبواب العربية كلّها لحروب داخلية وحدودية واختلال الجسم العربي بأسره، وممّا أدّى لاحقاً إلى تراجعاتٍ على مستوى القضية الفلسطينية ظهرت جليّاً في «اتفاق أوسلو» الذي نقل القضية الفلسطينية من قضيةٍ عربية إلى شأنٍ خاص بقيادة منظمة التحرير –وليس حتى بالشعب الفلسطيني كلّه– فأصبحت «السلطة الفلسطينية» مسؤولةً، حسب اتفاق أوسلو، عن المساهمة في تأمين أمن إسرائيل، إضافةً طبعاً إلى توظيف هذا الاتفاق لتبرير إقامة علاقات وتطبيع بين إسرائيل ودول عربية ومجموعة من الدول الإفريقية والآسيوية.
لكن مهما كانت تداعيات الصراع مع إسرائيل الآن سيّئة وبالغة التعقيد، ومهما كانت سلبيات الواقع العربي الراهن وحال الانقسام والعجز والضعف، فإنّ الإرادة الشعبية، في تاريخ أكثر من بلدٍ عربيٍّ، استطاعت أن تكسر الأغلال وأن تثور ضدّ الظلم والاحتلال، وهي قادرة على أن تصحّح هذا الواقع عاجلاً أم آجلاً، طالما حافظت على وحدة الشعب، وأدركت بحقّ، من هو الصديق ومن هو العدوّ.
وقد يكون ما يحدث الآن من تقارب عربي–عربي، هو كمطلع فجرٍ جديد ونهارٍ واعد بنور شمسٍ ساطعة، أو قد يكون بداية ليلٍ تلبس فيه الأمَّة العربية ثوب الظلام بعد معاناةٍ طويلة من أيام الظلم المحلّي والأجنبي. فالوجه الإيجابي المشرق في العقود المظلمة السابقة هو ما حدث من ظواهر مقاومة عربية ناجحة ضدّ الاحتلال، ثمّ ما حدث من حراكٍ شعبي عربي سلمي سعى إلى التغيير والإصلاح بدون ارتباط بأجندات أجنبية. لكن ما هو مهمٌّ وغير متوفّر بشكلٍ واضح بعد، هو هذا التكامل المنشود بين استمرار إرادة المقاومة في الأمَّة، وبين السعي للتغيير والإصلاح. أي الإصرار على مطلب التحرّر الوطني كوجهٍ آخر مكمّلٍ لوجه الديمقراطية في معنى الحرّية.
Leave a Reply