صبحي غندور
مضى أكثر من قرن على بدء الهجرة العربية لأميركا، لكن واقع العرب في أميركا استمرّ كمرآة تعكس حال العرب في البلاد العربية. ولم يستفد العرب في أميركا بشكلٍ عميق من طبيعة التجربة الأميركية التي قامت وتقوم على الجمع بين تعدّد الأصول الثقافية والعرقية، وبين تكامل الأرض والولايات في إطار نسيج دستوري حافظ على وحدة «الأمة» الأميركية –المصطنعة أصلاً– وبناء دولة هي الأقوى في عالم اليوم. ولعل «النموذج الأميركي» في كيفية فهم «الهوية الأميركية» واستيعاب هذه الهوية لتنوّع ثقافي وإثني وديني هو ما تحتاجه البلاد العربية في تعاملها مع مسألة الهوية العربية.
إنّ الساحة الأميركية مثلاً مفتوحة لأبناء «السوء» لبثِّ سمومهم وأحقادهم على الإسلام والعرب، لكن أيضاً هي ساحة مفتوحة (ولو بظروفٍ صعبة) على «دعاة الخير» من العرب والمسلمين لكي يصحّحوا الصورة المشوَّهة عنهم وعن ثقافتهم وأصولهم الوطنية والحضارية. وكما هناك العديد من الحاقدين في الغرب وأميركا على العرب والمسلمين، هناك أيضاً الكثيرون من أبناء أميركا والغرب الذين يريدون معرفة الإسلام والقضايا العربية من مصادر إسلامية وعربية بعدما لمسوا حجم التضليل الذي كانوا يعيشونه لعقود. وكما تلقَّت الجمعيات والمؤسسات العربية والإسلامية في أميركا عقب احداث 11 سبتمبر 2001، التهديدات ورسائل الشتم من بعض الأفراد الأميركيين، كذلك تلقَّت من مواطنين آخرين العديد من مظاهر الدعم والتأييد والتضامن والرسائل التي تسأل عن ماهيَّة الإسلام والمسلمين والعرب، وترفض أسلوب الحقد العنصري ضدَّهم وضدَّ دينهم وثقافتهم.
وإذا كان الغرب تحكمه الآن حالة «الجهلوقراطية» عن الإسلام والعرب، فإنَّها فرصة مهمَّة (بل هي واجب) على العرب والمسلمين في الغرب أن يتعاملوا مع هذه الحالة (بأسلوب الحوار الهادئ والمقنع) لاستبدال «الجهلوقراطية» الغربية بالمعرفة الفكرية السليمة عن الإسلام والعرب.
لكن «فاقد الشيء لا يعطيه»، لذلك هي أولوية موازية لأولوية التعامل السليم مع «الآخر»، بأن يعمل العرب والمسلمون في أميركا والغرب على تعميق معرفتهم بأصولهم الحضارية والثقافية وبالفرز بين ما هو «أصيل» وما هو «دخيل» على الإسلام والثقافة العربية. كذلك، فمن المهمّ التشجيع على التعاون الدائم بين المؤسّسات والهيئات العربية والإسلامية في أميركا والغرب، والحوار والتنسيق بينها وبين المؤسّسات الأخرى في هذه المجتمعات، إضافةً إلى التفاعل والحوار المباشر عبر الإنترنت ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.
هي مهمَّةٌ مزدوجة الآن أمام العرب والمسلمين في أميركا والغرب: تحسين وإصلاح «الجسم» (الواقع) بشكلٍ متزامنٍ مع تحسين وإصلاح «الصورة»، وبناء الذات السليمة مع بناء المعرفة السليمة لدى النفس ولدى الآخر.
ويشهد هذا العام، في نوفمبر القادم، انتخابات أميركية هامّة ستقرّر مصير رئاسة ترامب إضافةً لانتخاب كل أعضاء مجلس النواب وثلث عدد أعضاء مجلس الشيوخ وبعض حكّام الولايات الأميركية. وكما في كل سنة انتخابية أميركية، يتساءل الكثيرون عن دور «الجالية العربية» في أميركا، بل السؤال ينطبق على الانتخابات في معظم دول الغرب حيث لا تظهر فعالية كبيرة توازي ما تقوم به جماعات أخرى معادية للقضايا العربية.
ربّما تكون أهمّ الأسباب هي خطأ المقارنة أصلاً بين حال العرب في أميركا (أو في الغرب عموماً) بحال الجاليات الأخرى. فالواقع أنّ «العرب الأميركيين» مثلاً هم حالة جديدة في أميركا مختلفة تماماً عن الحالة اليهودية على سبيل المثال. العرب جاءوا لأميركا كمهاجرين حديثاً من أوطان متعدّدة إلى وطن جديد، بينما اليهود في أميركا هم مواطنون أميركيون ساهموا بإقامة وطن (إسرائيل) في قلب المنطقة العربية، أي عكس الحالة العربية والإسلامية الأميركية وما فيها من مشكلة ضعف الاندماج مع المجتمع الأميركي.
حالة العرب في أميركا مختلفة أيضاً من حيث الأوضاع السياسية والاجتماعية، فكثيرٌ منهم أتوا كمهاجرين لأسباب سياسية واقتصادية، وغالباً لأسباب أمنية تعيشها المنطقة العربية، ممّا يؤثّر على نوع العلاقة بين العربي في أميركا والمنطقة العربية. وتتعامل المؤسّسات العربية–الأميركية مع علاقات عربية متشعبة ومختلفة بين أكثر من عشرين دولة عربية وبين الولايات المتحدة.
من ناحية أخرى، فإنّ للعرب الأميركيين مشكلة تحديد الهويّة وضعف التجربة السياسية، فلقد جاء العرب إلى أميركا من أوطان متعدّدة ومن بلاد ما زالت الديمقراطية فيها تجربة محدودة، إضافةً إلى آثار الصراعات المحلّية في بلدان عربية على مسألة الهويّة العربية المشتركة.
أيضاً، من المهمّ التمييز بين حالاتٍ ثلاث مختلفة تتّسم بها الجالية العربية في أميركا وتنطبق على العرب في أوروبا: فهناك «أميركيون عرب»، وهم أولاد الجيل المهاجر الأول، و»عرب أميركيون» وهم من ولدوا في المنطقة العربية ثمّ درسوا أو عملوا في أميركا في سنٍّ مبكرة وحصلوا على الجنسية الأميركية ولم تذب عوائلهم تماماً بعد في المجتمع الأميركي، لكنها مندمجة فيه بقوّة وتشارك في العمليات الانتخابية، وهناك «عرب في الولايات المتحدة» وهؤلاء هم المهاجرون الجدد الذين لم يصبحوا مواطنين أميركيين بعد. وبينما نجد أغلب «الأميركيين العرب» غير متواصلين مع البلاد العربية الأم، نرى أنّ الفئة الثالثة (أي المهاجرين الجدد) غير متواصلة بعمق مع المجتمع الأميركي نفسه، ولكلٍّ من هذه الفئات الثلاث نظرة مختلفة للحياة الأميركية وللدور المنشود في المجتمع.
أضف إلى ذلك أيضاً، تعدّد الانتماءات الدينية والطائفية في الجالية العربية. البعض مثلا يندفع نحو منظّمات دينية وهو ما يستبعد النصف الآخر من الجالية العربية. وبعض الجالية يتقوقع مذهبياً وعائلياً سواء بسبب منطلقات خاصّة به أو انعكاساً لما يحدث في المنطقة العربية.
فالجالية العربية والجالية الإسلامية تنتميان إلى أصول وطنية ودينية متنوعة، إذ أنَّ أكثر من نصف تعداد الجالية العربية هم من أتباع الديانة المسيحية، وينتمون في أصولهم الوطنية إلى بلدان لبنان وسوريا والعراق وفلسطين ومصر والأردن، بينما أكثر من نصف عدد الجالية الإسلامية (حوالي 8 مليون) ينتمون في أصول أوطانهم إلى بلدان غير عربية (من بلدان آسيا وأفريقيا غير العربية) إضافةً إلى عددٍ من الأميركيين الذين اختاروا الإسلام ديناً لهم ومعظمهم من الأميركيين الأفارقة.
فأكثر من نصف الجالية العربية هم من المسيحيين العرب، وأكثر من نصف الجالية الإسلامية هم من أصولٍ غير عربية. ولا يمكن وضعهم جميعاً (العرب والمسلمين في أميركا) في «سلَّةٍ واحدة» من الناحتين الدينية والوطنية.
إذن، كلّما كان هناك تعاون وتنسيق بين الأقليتين العربية والإسلامية، وكلّما كانت هناك دعوات لفكر عربي سليم فيما يتعلّق بمسألة الهوية الثقافية ومضمونها الحضاري، بمقدار ما تستطيع الجالية العربية في أميركا أن تنجح عملياً وتتجاوز الكثير من الثغرات والعقبات.
فالجالية العربية في أميركا (كما هي في أوروبا) تعيش محنة ارتجاج وضعف في الهُويتين: العربية الأصلية وفي الهُوية الأميركية المستحدثة. فالمهاجرون العرب، أينما وُجِدوا، ينتمون عملياً إلى هويتين: هوية أوطانهم العربية الأصلية ثمّ هوية الوطن الجديد الذي هاجروا إليه. وقد تفاعلت في السنوات الأخيرة، خاصّة عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، جملة تطوّرات انعكست سلبياً على الهويتين معاً. ففي الحالة الأميركية أصبح المواطن الأميركي ذو الأصول العربية موضع تشكيك في هويته الأميركية وفي مدى إخلاصه أو انتمائه للمجتمع الأميركي. وقد عانى الكثير من العرب في عدّة ولايات أميركية من هذا الشعور السلبي لدى معظم الأميركيين غير العرب حيال كل ما يمتّ بصلة إلى العرب والعروبة والإسلام.
أيضاً، ترافق مع هذا التشكيك الأميركي بضعف «الهويّة الأميركية» للأميركيين ذوي الأصول العربية، تشكّك ذاتي حصل ويحصل مع المهاجرين العرب في هويّتهم الأصلية العربية، ومحاولة الاستعاضة عنها بهويّات فئوية بعضها ذو طابع طائفي ومذهبي، وبعضها الآخر إثني أو مناطقي أو في أحسن الحالات إقليمي.
Leave a Reply