حاكم ايلينوي سجيناً..الفساد طبيعة من طبائع البشر، اينما وجدوا. لكن الفاسدين هم اكثر عرضة للمساءلة في الانظمة الديموقراطية التي تمارس فصلاً تاماً للسلطات، من غيرهم في الانظمة الشمولية – الديكتاتورية التي لا تعرف حدوداً بين تلك السلطات ولا تعترف بها، او تجمعها في سلة واحدة من الوصاية المطلقة على مختلف مناحي الحياة المدنية والسياسية.بالمقياس الديموقراطي الاميركي، لا يمكن التقليل من حجم الجريمة التي كان حاكم ولاية ايلينوي رود بلاغوفيتش على وشك ارتكابها عندما فاوض على بيع مقعد مجلس الشيوخ عن الولاية، الذي شغر بانتخاب السناتور باراك اوباما رئيساً للولايات المتحدة، لمن يدفع اكثر، باعتبار الحاكم مخولاً قانوناً بملء المقعد الشاغر.وعلى خطى سناتور آلاسكا تيد ستيفن وزميله حاكم نيويورك إليوت سبتزر اللذين ارتكبا جريمتي فساد: الاول لقبوله خدمات تحسين منزلي بقيمة 30 الف دولار دون الافصاح عنها، والثاني لممارسته البغاء مع حسناء آسيوية، من فئة «الخمس نجوم» في احد فنادق العاصمة الاميركية.. يتعرض حاكم ايلينوي لفقدان منصبه، بعدما قبض عليه متلبساً بالجريمة التي سبقتها عدة ممارسات «جرمية» من نوع طلب تبرعات لحملته الانتخابية، من مؤسسات تتلقى مساعدات حكومية، وتهديده بقطع المساعدة الحكومية عن مشروع تسهم فيه صحيفة «شيكاغو تريبيون»، في محاولة للضغط عليها من اجل طرد صحافيين ازعجوا الحاكم بانتقاداتهم لادائه.حاكم ايلينوي الذي سيق مخفوراً هو ورئيس موظفيه جون هاريس كان ايضاً وجه اهانات لفظية لباراك اوباما بعد انتخابه رئيساً للولايات المتحدة مستخدماً كلمات بذيئة، على خلفية إمتعاضه من عدم تجاوب أوباما مع طموحاته بمنصب وزاري أو ديبلوماسي رفيع.بعد شغور مقعد مجلس الشيوخ، شعر الحاكم بلاغوفيتش انها فرصته الثمينة والنادرة لتحقيق «ضربة العمر» المالية – السياسية عندما ضبطه عملاء مكتب التحقيقات الفدرالي وهو يقول على اشرطة مسجلة خفية، ما مفاده: «لديّ هذا الشيء (المقعد) وهو من ذهب ولن اعطيه دون مقابل..».الحاكم المتعجرف يواجه حالياً تهماً باساءة استخدام السلطة والتآمر لقبض رشاوى، والخبر احتل عناوين نشرات الاخبار ثم الصحف ليوم واحد، وقد يواجه، بعد خسارة منصبه، احكاماً بالسجن لمدة طويلة، تجعل ابراهام لينكولن يعود و«يستريح» في قبره بعدما «حركته» ممارسات حاكم الولاية على حدّ تعبير المدعي العام باتريك فيتزجيرالد.هذه الحادثة – الحدث، وقبلها حادثتا سيناتور آلاسكا السبعيني تيد ستيفن، وحاكم نيويورك المعزول اليوت سبتزر تؤشر الى مدى متانة النظام القضائي الاميركي واستقلاله عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، وان هذا الرصيد للنظام الديموقراطي لا يقدر بثمن، بل هو السر – المفتاح في بقائه على قيد الحياة.ثمة مقولة بأن الديموقراطية هي نظام الحكم «الاقل سوءاً»، مقارنة بأنواع اخرى من الانظمة التي جربتها الشعوب منذ دخولها في عصر الدولة، قبل قرون عديدة. والحقيقة ان هذا التوصيف فيه الكثير من الاجحاف بحق هذه الصيغة من الاحكام التي انتجت دولاً مدنية ووضعتها في مصاف الدول المتقدمة سياسياً واقتصادياً. ومقارنة بسيطة بين صيغة الحكم الديموقراطي الذي يمارسه الغرب الاميركي والاوروبي وصيغ الحكم الاستبدادية التي تتحكم بشعوب الشرق، ومنها شعوبنا العربية كافة، تظهر الفارق الهائل بين مجتمعات تلك الدول، وقدرتها على التخلص من «النفايات» السياسية التي تنتجها دورة السلطة، والمجتمعات غير الديموقراطية التي تراكم ممارسات الفساد عبر السنوات والعقود، لتصير جبالاً من «النفايات»، وتستحيل جزءاً من ادارة السلطة ورديفاً لها، بل ان الفساد في تلك المجتمعات هو من «المؤهلات» المطلوبة في الحكم.تقود هذه الحادثة ومثيلاتها التي لا حصر لها في المجتمع الاميركي، وعلى مستويات السلطة كافة من ادناها الى اعلاها (تذكروا عزيز قوم ذلّ على رأس حكومة مدينة ديترويت قبل اشهر قليلة).. تقود الى التساؤل: متى يصير بإمكان المجتمعات العربية ان تحاكم مسؤوليها الفاسدين، خصوصاً اولئك الذين قضوا اعمارهم في السلطة ثم ورثوها الى ابنائهم او افراد حمولتهم، او ممن يهيئون لتسليمها بعد عمر غير طويل الى الابناء كإرث من ممتلكات العائلة؟الانكى ان بعض هؤلاء الحكام الذين يتربعون على عروش السلطة كأقدار «سماوية» ويتحكمون بمصائر وارواح وارزاق شعوبهم يمتلكون «عدة شغل» قوامها «مناهضة الامبريالية الاميركية»!بالأمس القريب احدثت الديموقراطية الاميركية زلزالاً في المفاهيم التقليدية لانتاج السلطة فطردت العرق الابيض من جنّتها الرئاسية في عملية محاسبة قاسية، ونصبت اول رجل اسود على رأسها ولم تهتز لمجتمعها شعرة واحدة.يُعزل سيناتور، يسقط حاكم.. يحاكم رئيس وهو في بيته الابيض (مثال كلينتون ونيكسون) وحكام الشرق من قمة الهرم الى اسفله لا تهتز في كراسيهم رجل واحدة، بل تزداد رسوخاً وثباتاً على عظام «الجماهير» التي ادمنت على صيغ الاستفتاءات الشعبية التي لم تعرف في تاريخها رقماً ادنى من 99,99 بالمئة. بل ان احدها (في عراق صدام حسين) رفض هذه النسبة «الهزيلة» واصر على المئة بالمئة قبل ان تسقطه الامبريالية الاميركية، ولم يجد من يدافع عن تماثيله المنتشرة على الطرقات من ضرب الاحذية الذي اندفعت لممارسته جماهير «الاستفتاء» الذي اجري قبل ذلك بفترة وجيزة!.حبذا لو تأخذ مجتمعاتنا الشرقية والعربية العبرة من ديموقراطية الامبريالية ولو ليوم واحد. إذن لرأينا قمم السلطة في جميع دولها تخلو دفعة واحدة والسجون الممتلئة «بالمتآمرين على الوطن» من احراره تفتح ابوابها لاستقبال قادتهم وملوكهم و«رؤسائهم» في اقامة طويلة.
Leave a Reply