صبحي غندور
احتفلت مصر منذ أيام بالذكرى 41 لحرب أكتوبر التي نجح فـيها الجيش المصري بعبور قناة السويس وبخوض معارك بطولية مع جيش الإحتلال الإسرائيلي الذي كان يحتلّ شبه جزيرة سيناء وصولاً إلى قناة السويس. وهذا الإنتصار العسكري للقوات المسلحة المصرية قبل أربعة عقود ما كان له أن يحدث لولا إعادة البناء لهذه القوات بعد حرب العام 1967، والذي كان يتمّ باشراف كامل من الرئيس جمال عبد الناصر وفق ما وضعه آنذاك من استراتيجية لمواجهة نتائج العدوان الإسرائيلي، شملت، إضافة إلى الإستعدادات الداخلية المصرية، بناء تضامن عربي فعّال كان له الدور الكبير فـي حرب العام 1973.
وقد قيل وكتب الكثير عن هذه الحرب وعن جاهزية القوات المصرية لخوضها آنذاك فـي العام 1971، لكن بعد وفاة ناصر فـي العام 1970 وتولّي أنور السادات الرئاسة فـي مصر، جرى تأجيل قرار الحرب إلى أكتوبر 1973 حيث توفر التنسيق أيضاً مع الجبهة السورية التي خاضت كذلك حرباً شرسة فـي مرتفعات الجولان المحتلة.
تُرى، لو حصلت حرب أكتوبر وجمال عبد الناصر مازال حياً، هل كانت المنطقة العربية عانت وتعاني مما حصل فـي العقود الأربعة الماضية من تحول الإنتصار العسكري عام 1973 إلى هزيمة سياسية لمصر وللعرب نتيجة توقيع المعاهدات مع إسرائيل، وما رافقها وتبعها من عزل مصر عن امتها العربية ومن صراعات وحروب أهلية بدأت فـي لبنان بالعام 1975 وتورطت فـيها عسكرياً سوريا والمقاومة الفلسطينية وأطراف عربية أخرى، بحيث كانت «الجبهة الشرقية» تقاتل بعضها البعض بينما «الجبهة الغربية»، أي مصر، توقّع معاهدات «سلام» مع إسرائيل؟!. وهل كانت إسرائيل لتغزو لبنان وعاصمته بيروت لو لم توقّع مصر- السادات المعاهدة مع إسرائيل؟! فقد حدث هذا الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 دون ردود فعل عسكرية عربية باستثناء مشاركة القوات السورية المتواجدة حينها على الأراضي اللبنانية.
ولو كانت مصر بكل ثقلها حاضرة فـي قضايا الأمة العربية، كما كانت فـي عقدي الخمسينات والستينات، هل كان ممكناً أن يغزو صدام حسين الكويت وأن يحدث بعد ذلك الإنهيار الكبير فـي العلاقات العربية/العربية وأن تنتشر الأساطيل والقواعد العسكرية الأجنبية فـي معظم أرجاء المنطقة العربية؟! وهل كان ممكناً أيضاً أن تحصل خطوات التطبيع والعلاقات مع إسرائيل واتفاقيات أوسلو ووادي عربة، لو لم تبدأ مصر هذا المسار؟!.
هذه التساؤلات هي ليست من أجل الغوص فـي الأحلام أو مجرد افتراضات، بل هي تنبيه إلى أساس المشاكل فـي الواقع العربي الراهن، ولتأكيد أهمية استعادة دور مصر عربياً وإقليمياً. فالعرب كلهم فـي سفـينة واحدة مهما اختلفت درجاتهم وممتلكاتهم ووظائفهم على هذه السفـينة، ومصر هي الربان بهذه السفـينة، وبتعطيل دورها يحصل التيه وسط الرياح والأمواج العاتية ويدور الصراع على قيادة السفـينة وتغيب أيضاً البوصلة السليمة التي لا تتوفر إلاّ بوجود قيادة سليمة لمصر نفسها، وهذا ما كان مفقوداً منذ توقيع المعاهدات مع إسرائيل.
أيضاً، خلال حقبة الأربعين سنة الماضية، تفاعلت قضايا عديدة فـي المنطقة العربية وفـي العالم، كانت بمعظمها تحمل نتائج سلبية على الهويّة العربية المشتركة، فتنقلها من كبوةٍ إلى كبوة، وقد امتزجت هذه السلبيّات مع انجذابٍ أو اندفاعٍ فـي الشارع العربي إلى ظاهرة «التيَّارات الدينية والطائفـية» التي دعمتها عوامل كثيرة، داخلية وخارجية، والتي ساهمت بأن يبتعد المواطن العربي عن «هويّته العربية» وأن يلتجئ إلى إطرٍ سياسيةٍ وفكرية تحمل مشاريع ذات سمات دينية/طائفـية أو مذهبية، اعتقاداً فـي أنها هي الاساس الصالح لمستقبلٍ أفضل.
لكن المشكلة أنّ هذه «البدائل» كانت وما تزال مصدر شرذمة وانقسام على المستويين الوطني والديني، خاصّةً إنّ معظم البلاد العربية قائمة على تعدّدية طائفـية أو مذهبية أو إثنية، كما هو الحال فـي بلاد المشرق والمغرب معاً، أو تحديداً كالتي هي الآن محور الصراعات المتفجّرة فـي المنطقة كالعراق وسوريا ولبنان، حيث التحدّي الكبير مع مشاريع التمزيق والتقسيم والتدويل، وحيث المواجهة هي مع بعض هذه الحركات الدينية العنفـية التي شوَّهت فـي ممارساتها الدين نفسه.
لذلك هناك حاجةٌ وضرورة عربية الآن لإطلاق «تيّار عروبي» فاعل يقوم على مفاهيم فكرية واضحة، لا تجد تناقضاً بين الدولة المدنية وبين دور الدين عموماً فـي الحياة العربية، ولا تجد تناقضاً بين العروبة وبين تعدّدية الأوطان بل تعمل لتكاملها، وبأن تقوم هذه المفاهيم الفكرية على الديمقراطية فـي أساليب الحكم والمعارضة معاً.
«تيّار عروبي» منسق بين الطاقات والقوى الفاعلة وسطه، تيار يرفض استخدام العنف لإحداث التغيير فـي الحكومات والمجتمعات أو لتحقيق دعوته أو فـي علاقاته مع الآخرين، ويميِّز بين الحقّ المشروع لأبناء الأوطان المحتلَّة بالمقاومة ضدّ قوات الاحتلال، وبين باطل استخدام أسلوب العنف ضدّ غير المحتلين وخارج الأراضي المحتلة. «تيار عروبي» يدعو للبناء السليم للمؤسسات العربية المشتركة، وللمنظمات المدنية المبنية على أسلوب العمل الجماعي الخادم لهدف وجودها. «تيّار عروبي» تكون أولويته الآن هي حماية الوحدة الوطنية فـي كلّ بلدٍ عربي ويرفض كل الأفكار والممارسات الطائفـية والمذهبية وأي انغماس فـي وحل الصراعات الأهلية.
لقد كان عقد الخمسينات من القرن الماضي بداية لإطلاق حركةٍ قومية عربية وسطية «لا شرقية ولا غربية»، ترفض الانتماء إلى أحد قطبيْ الصراع فـي العالم آنذاك، وترفض الواقع الإقليمي المجزّئ للعرب، كما ترفض الطروحات القومية الأوروبية العنصرية والفاشية، وتنطلق من أرض مصر التي هي موقع جغرافـيّ وسط يربط إفريقيا العربية بآسيا العربية، ويعيش على ترابها أكبر كثافة سكّانية عربية تملك، قياساً بسائر الأقطار العربية الأخرى، كفاءاتٍ وقدراتٍ بشرية ضخمة.
ثمّ كانت حرب السويس عام 1956 وبعدها إعلان الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، وقبل ذلك إعلان تأسيس حركة عدم الانحياز، كلّها مصادر إشعال لتيّارٍ جديد قاده جمال عبد الناصر من خلال موقع مصر وثقلها القيادي، وحقّق للمرّة الأولى صحوةً عربية تؤكّد الانتماء إلى أمَّةٍ عربيةٍ واحدة، وتدعو إلى التحرّر الوطني من كافّة أشكال الهيمنة الأجنبية، وإلى نهضةٍ عربيةٍ شاملة فـي جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لكن هذه الصحوة العربية كانت «حالةً شعبية» أكثر منها «حالة فكرية» أو «تنظيمية». أيضاً، لم تكن هذه الصحوة العربية قائمةً على حسمٍ ووضوحٍ مبدئيّ للأسس الفكرية المطلوبة لخصوصية الأمة العربية. وكم كان محزناً رؤية العديد من القوى والحركات القومية وهي تتصارع حول أيّة «اشتراكية» وأيّة «قومية» وأيّة «حرّية» تتبنّى كمفاهيم فكرية، أو تنتمي إليها كحركات سياسية، وكذا صراع هذه القوى والحركات حول موقفها من الدين عموماً ومن الإسلام خصوصاً.. والكلّ معاً كان فـي «تيّارٍ قوميٍّ واحد»!!
ولأنّ القيادة الناصرية لمصر جاءت للحكم بواسطة انقلابٍ عسكريّ دعمه فـيما بعد الشعب وحوَّله إلى ثورةٍ شعبية، فإنَّ «التيار القومي» ارتبط فـي ذهن البعض بأسلوب «الانقلاب العسكري» وبالمراهنة فقط على المؤسسات العسكرية لتصحيح أوضاع داخلية تحتاج أولاً لمعالجات سياسية وفكرية وإجتماعية أكثر منها أزمات أمنية.
ولأنّ سمة المرحلة كانت «معارك التحرّر الوطني من الاحتلال والاستعمار»، فإن هذه المعارك لم تسمح كثيراً بـ«الحديث عن الديمقراطية»، لذلك كان من الطبيعي فـي البلدان العربية (كحال معظم بلدان العالم الثالث) التي أرادت التحرّر من «الغرب الرأسمالي المستعمر» أن لا تقبل الجمع بين التحرّر الوطني من الغرب وبين تبنّي صيغه الدستورية والاقتصادية والثقافـية فـي أنظمتها.
…
تلك مرحلة قد انتهت فـي البلاد العربية وفـي العالم كلّه، لها ما لها وعليها ما عليها، لكن ما زالت سلبيات تلك المرحلة «حالة قائمة» فـي المجتمعات والمفاهيم العربية، ولم تدرك جماعاتٌ كثيرة بعد أنَّ «القومية العربية» أو «العروبة» هي هويّة ثقافـية وليست مضموناً فكرياً وسياسياً قائماً بذاته، وبأن بديل ما نرفضه الآن من انقسامات وطنية وطائفـية ومذهبية هو التمسك بالهوية العربية التي تستوعب أيضاً تحت مظلتها كل الخصوصيات الإثنية الأخرى. فالهوية العربية مثلها كمثل «الهوية الأميركية» التي استوعبت مئات الملايين من أصول عرقية وإثنية ودينية مختلفة ونجحت فـي جعل كل الأميركيين يعتزون ويفخرون بهويتهم المشتركة. ولم يتحقق ذلك للأميركيين إلاّ بعد قيام اتحاد بين ولاياتهم الخمسين على أساس دستوري سليم، رغم خوضهم لحرب أهلية دامية.
ألا يحق للعرب، وهم يعيشون الآن كابوس حاضرهم، أن يعملوا من أجل مستقبل عربي أفضل يكون عماده بناء «الولايات العربية المتحدة» القائمة على أوضاع دستورية مدنية سليمة؟! ألم يقل تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني، فوراً عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية التي دمرت فـيها دول أوروبا بعضها البعض، بأنه يرى بعد نصف قرنٍ من الزمن أوروبا موحدةً؟!.
استعادة الدور الإيجابي الطليعي لمصر فـي قضايا الأمة العربية، وتصحيح المفاهيم والممارسات الخاطئة باسم الدين والعروبة، والتمسك بالهوية العربية، هي ركائز لأي عمل عربي جاد يستهدف بناء مستقبل أفضل.
Leave a Reply