هل يحجّم عون دور «صهر الرئيس» كما فعل ترامب؟
قلّة في لبنان تقرأ التاريخ، وإن فعلت، فإنها لا تستخلص أيّاً من دروسه. وإذا كان يمكن تفهّم تلك الظاهرة لدى العامّة، إلا أنّ الأمر مختلف لدى النخبة السياسية، التي لا تقارب التجارب التاريخية إلا من الزاوية التي تخدم الخطاب التحريضي واستنفار العصبيات الطائفية والمذهبية، بدلاً من استخلاص العبر، التي تصون البلاد، أو حتى تحمي المصالح السياسية الفردية، لهذا الزعيم أو ذاك، على نحو يتجاوز مجرّد استحقاق انتخابي، ليصل إلى مستقبلها السياسي.
تلك ملاحظةٌ لا بد من الركون إليها في مقاربة الأزمة السياسية القائمة حالياً في لبنان، سواء في شقّها العام الذي يتمحور منذ نهاية العام المنصرم، حول عنوان «مرسوم الأقدمية» بين الرئيسين ميشال عون ونبيه بري، أو في جانبها الأكثر تقدّماً، والتمتّل في «التسريب»–الفضيحة لوزير الخارجية جبران باسيل.
في هذه الأزمة الحالية، تبدو المسؤولية أكبر على رئيس الجمهورية للقيام بقراءة تاريخية، بنظرة موضوعية وشاملة تتجاوز المحطّات التي يهوى استحضارها في أدبياته السياسية، والتي تبدو أقرب إلى سرديات تاريخية تقتصر على الشعارات/«الكليشيهات» المرتبطة بـ«الحريّة والسيادة والاستقلال»، على النحو الذي يمكن الاستمتاع به، حين يستحضر المرء «الوطن المتخيّل» في مسرحيات الأخوين رحباني على سبيل المثال.
لكنّ التاريخ في «المسرح» أو «اليوتوبيا» شيء، وفي الواقع شيء آخر. على هذا الأساس، يتجاهل الرئيس عون –المعروف بعشقه للسرديات التاريخية– محطات شهدها التاريخ اللبناني الحديث، ومن شأنها أن تشكل مفتاحاً لإدارة العهد، على النحو الذي يجعله يخرج بعد خمس سنوات من قصر بعبدا، بإنجازات تتوّج مسيرة سياسية وعسكرية طويلة، اللّهمَ إلا إذا ما أصيب بـ«مرض الرؤساء الدائم» –أو «التجديد»– كما وصفه يوماً المعلّم الشهيد كمال جنبلاط.
عِبر من التاريخ
لعلّ أولى المحطات التي ينبغي على العماد عون قراءتها، بعد أكثر من عام على تولّيه منصب الرئاسة، هي تجربة العهد الاستقلالي الأول التي حوّلت الرئيس الراحل بشارة الخوري من بطل الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي في العام 1943 إلى مجرّد زعيم سياسي تقليدي –بالمعنى السلبي لوصف «زعيم سياسي» في لبنان– تتفق كل المتناقضات السياسية، من اليمين إلى اليسار، على إطاحته.
ولعلّ العارفين بتفاصيل تلك المرحلة، يستذكرون جيّداً دور شقيق الرئيس، الذي سمّي بـ«السلطان سليم»، والذي شكّل وصمة العار على جبين بطل الاستقلال، بعدما أصبح الحاكم بأمر الرئيس أو بغير أمره، على النحو الذي أنهى العهد الاستقلالي الأول، بـ«ثورة بيضاء»، لم تقض على المستقبل السياسي لبشارة الخوري فحسب، بل جعلت من فترة ولايته عهداً للإفساد السياسي والإداري.
لعلّ تلك التجربة، شكلت جرس إنذار مبكر لكل من تولى منصب رئاسة الجمهورية في ما بعد، والذين يسجّل لهم –برغم الخيارات السياسية الصائبة أو الخاطئة– أنهم أبعدوا الحاشية العائلية عن شؤون الحكم، أو حدّوا من تأثيرها، ابتداءاً من الرئيس كميل شمعون، وصولاً إلى ميشال سليمان.
وحده الرئيس ميشال عون، خرق إجماع أسلافه على استخلاص العبر من تجربة الشيخ بشارة الخوري، إذ يكاد المرء يجزم أنّ ثمة تكرار لتجربة «السلطان سليم» مع «السلطان باسيل» الذي يبدو وكأنّه الآمر الناهي في القرارات الرئاسية، وإن أنكر الرئيس ذلك، بالعبارات الفضفاضة التي أطلقها على مسامع اللبنانيين، في اللقاء التلفزيوني المفتوح، الذي أجراه مع الإعلام في سنويّته الرئاسية الأولى، في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
جانب آخر ربما يهمله الرئيس عون في قراءة التاريخ، أو حتى في مقاربة وقائعه، وهو أن الأحداث التاريخية لا يمكن عزلها بعضاً عن البعض على النحو الذي يجعل من الخطأ استعادة التاريخ، على نحو انتقائي، عبر التموضع في محطات ثابتة والبقاء في أسرها دونما النظر إلى ما سبقها وتلاها.
على هذا الأساس، يخطئ الرئيس عون في حال جنحت طموحاته السياسية نحو استعادة تجربة «المارونية السياسية» المناقضة لمبدأ الشراكة الوطنية، الذي كرّسه اتفاق الطائف، بعد حرب أهلية، بات كثيرون يخشون اشتعال شرارتها بحادثة مشبوهة، كتلك التي شهدتها بلدة الحدث في خضم الاشتباك السياسي على خلفية التصريح الباسيلي «المسرّب».
دور عون
ليس ما سبق، بالضرورة، اتهاماً للرئيس عون، بالسعي المتعمّد لإرجاع عقارب الساعة إلى ما قبل العام 1975، خصوصاً بعدما أظهر الكثير من المواقف الوطنية بعد تولّيه رئاسة الجمهورية أو قبل ذلك (مقاربة أزمة استقالة الحريري، الدفاع عن عروبة القدس، التمسك بالمقاومة في محاربة إسرائيل… الخ)، وإنما دعوة إلى قراءة التجارب التاريخية جيّداً واستخلاص عبرها القاسية وترجمة ذلك بإجراءات حاسمة لعدم السماح بـ«حكم صبية» على الطريقة السعودية الـ«بن سلمانية»، على النحو الذي بات السمة البارزة لنفوذ «السلطان باسيل» في الحياة السياسية اللبنانية، بدءاً بإدارته لـ«التيار الوطني الحر» –الذي كان حتى الأمس القريب إطاراً جامعاً للوطنيين اللبنانيين يميناً ويساراً– وصولاً إلى تحكّمه بكافة مفاصل عهد «الرئيس القوي».
وإذا كانت للعماد عون مقاربته التاريخية الخاصة التي تجعل علاقته بالرئيس نبيه بري أسيرة التناقض السابق بين قائد «أفواج الدفاع» وقائد «انتفاضة 6 شباط»، على النحو الذي يمنعه من استخلاص دروس الماضي، لمنع تكرارها، فإنّ ثمة تجارب عدّة في الحاضر يمكن لرئيس الجمهورية أن يستفيد منها، لتجنّب ما هو أسوأ من ردّ فعل شعبي، على الإساءة «الباسيلية»، وتحديد الخطوط الحمراء، والضوابط، التي ينبغي أن تنتظم في إطارها الحياة السياسية في لبنان.
من بين تجارب الحاضر تلك، واحدة تكمن المفارقة في تزامنها المثير للانتباه، مع العهد العوني، وميدانها الضفة الأخرى من العالم، وهي ما زالت تلقي بظلالها، ليس على مستوى الميدان المحلي فحسب، وإنما على مستوى العالم بأسره.
قبل عام، بالتمام والكمال، برز حدث مثير للانتباه في طرافته، نشرته إحدى المواقع الاخبارية الأجنبية، وهو «دونالد ترامب يقلّد ميشال عون!»، في إشارة إلى قرار الرئيس الأميركي تعيين جاريد كوشنر، زوج ابنته المفضّلة إيفانكا، كبير مستشاريه في البيت الأبيض.
ولا يخفى أن «صهر الرئيس» الأميركي، بات عنواناً أساسياً للأزمة السياسية بين دونالد ترامب ومعارضيه، ضمن المنظومة الأميركية الحاكمة، وسط دعوات متزايدة، إلى الحد من دوره في مطبخ صنع القرار الرئاسي، لا بل مطالبات شرسة بإقالته، وهو ما دفع الرئيس الأميركي إلى تحجيم دوره، في الحياة السياسية، منذ تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، منعاً لتجاوز الخطوط الحُمر المرسومة بدقة في «استابليشمنت» الحكم.
ولعلّ تحجيم دور كوشنر، كان بمثابة حلٍّ، ولو مؤقت وموضعي، لكي يتجنب ترامب بعضاً من العواصف العاتية، والمتكرّرة والتي اتخذت شكل انتقادات حادة لطريقة إدارة الحكم، بما في ذلك من داخل المعسكر الجمهوري، وحتى الفريق الرئاسي نفسه، بشكل قد يبدو موحياً في مقاربة المواقف المنتقدة للمواقف المسرّبة من فيديو «جاريد باسيل»، والتي أجمعت على إدانة التعرّض للرئيس نبيه برّي، وقبلها في الانتقادات الحادة التي تعرّض لها «صهر العهد» على خلفية مواقفه السياسية المثيرة للجدل، إن على المستوى القومي (الموقف الايديولوجي من إسرائيل)، أو حتى على مستوى العلاقات الداخلية بين «البرتقاليين».
انطلاقاً من ذلك، قد يكون الخيار الأفضل الذي يمكن للرئيس عون اتخاذه لتجاوز الأزمة القائمة، هو تحجيم دور جبران باسيل، على النحو الذي حجّم من خلاله الرئيس ترامب دور جاريد كوشنر، وهو يبدو اليوم الحل الوحيد للخروج من عنق الزجاجة، وتحصين الجبهة الداخلية، في ظل التحدّيات الخطيرة التي باتت تواجه لبنان، من البوابة الإسرائيلية… اللهمّ إلا إذا كانت ثمة حسابات غير معلنة تمنع القيام بذلك، أو إذا كان نفوذ «صهر الرئيس» قد بات أقوى من نفوذ الرئيس نفسه!
Leave a Reply