نبيل هيثم – «صدى الوطن»
غريبٌ أمرُ لبنان. يوميات الحياة السياسية فيه تبعث على الظن بأن مصير الكرة الأرضية متوقف على توزيع الحصص والحقائب الوزارية، بينما الكوكب بأكمله مهدّد بعواصف جيوسياسية، في خضم مخاض دولي واقليمي يسبق نظاماً عالمياً جديداً لن تكون ولادته سهلة.
تشبه الحياة السياسية في لبنان حال طرقاته التي تغرقها مجرّد أمطار عابرة، ولم يعد أحد يهتز لحالها المزرية، كما لو أنّ السيول التي تجتاحها مجرّد طقس فولكلوري يؤذن بقدوم فصل الشتاء.
ولكن شتّان ما بين مطر عابر، وبين طوفان يبشّر به خبراء البيئة الذين رفعوا منسوب القلق إلى مستوى الكارثة، عالمياً، في ظل الأثر المدمّر للتلوث البيئي، الذي كان من أوقح أشكاله انسحاب دونالد ترامب من اتفاقية باريس للحد من التغيّر المناخي.
وإذا كان «الطوفان» أمراً محتملاً في لبنان، شأن كل دول العالم، فإنّ البنية التحتية لهذا البلد ستكون مشرّعة لهذا النوع من الكوارث التي قد تحلّ في أيّ وقت.
الأمر ذاته ينطبق على العواصف السياسية التي بدأت تتكوّن بالفعل، والتي باتت غيومها السوداء تغطي سماء المنطقة والعالم، مهدّدة بتغيّر كل قواعد اللعبة التي سادت الصراعات الجيوسياسية منذ سبعينيات القرن المنصرم.
عاصفة نووية
أحدث تلك العواصف المتكوّنة، المسعى الأميركي الجديد للانسحاب من اتفاقية الحد من الصواريخ المتوسطة والقصيرة الأمد التي وقعها الرئيس السوفياتي الأخير ميخائيل غورباتشوف والرئيس الأميركي رونالد ريغان في الثامن من كانون الأول (ديسمبر) عام 1987، والتي ألغت فئة كاملة من الصواريخ النووية يتراوح مداها بين 500 و5 آلاف كيلومتر، منهية أزمة خطيرة اندلعت في الثمانينيات بسبب نشر الاتحاد السوفياتي صواريخ «أس أس 20» النووية، التي كانت تستهدف عواصم أوروبا الغربية.
صحيح أن الانسحاب الأميركي من الاتفاقية لن يعني بالضرورة اندلاع حرب نووية بين الشرق والغرب، لكن قرار دونالد ترامب يثير مخاوف من تسارع السباق المحموم الرامي إلى تطوير وإنتاج الأسلحة النووية، لدى كلا المعسكرين، سواء حلفاء واشنطن أو موسكو.
كما قد يكون للانسحاب من هذه المعاهدة تبعات ضخمة على السياسة الدفاعية الأميركية في آسيا، وتحديدا تجاه الصين منافستها الإستراتيجية الرئيسية التي يخوص ترامب معها حربا تجارية.
بهذا المعنى، فإنّ قرار ترامب يشكل خطوة حاسمة على طريق تفكيك بنية العلاقات الدولية التي قامت على مؤسسات دولية وتحالفات ومواثيق ومعاهدات واتفاقيات مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي ظلت قائمة حتى بعد انتهاء الحرب الباردة، بتفكك الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينيات.
ثمة ملاحظة لا بد منها في هذا السياق، وهي أن قرار ترامب، يمكن اعتباره امتداداً لسلوك جورج دبليو بوش الذي كان سباقاً في الانسحاب من معاهدة الحد من منظومات الصواريخ المضادة للصواريخ في العام 2002، الذي شكل من الناحية العملية نقطة البداية لتنافس القوى الكبرى وعودة سباق التسلح، وكان سبباً في زيادة منسوب التوتر عالمياً عبر خطين متوازيين، تمثل الأول في اشتداد الحروب بالوكالة في العالم، والثاني في اندفاعة الولايات المتحدة لخوض مغامرة عسكرية مدمّرة (غزو العراق – 2003).
على هذا الأساس، يمكن توقع، من دون أدنى شك، أن يؤدي هذا الصراع المتجدد إلى اشعال الموقف في الكثير من نقاط العالم، على نحو لا يقتصر على الصراعات التي شهدناها خلال العقدين الماضيين (أفغانستان، الشيشان، سوريا، ليبيا وأوكرانيا…)، وإنما باتجاه ميادين جديدة، بدأت تتلبد فيها غيوم النزاعات، ما ينذر بتدويل في صراعاتها الداخلية.
بقرة حلوب .. وقعت
ليس من قبيل المصادفة أن تتزامن قضية الصحافي السعودي جمال خاشقجي مع هذا الجو المتوتر. وليس خافياً أن الصراع المحتدم حول هذه القضية المثيرة للجدل، يأتي في سياق أكثر خطورة من مجرّد تصفية «معارض» بدم بارد، فخاشقجي بات تفصيلاً صغيراً في ديناميات عابرة لبوابة القنصلية السعودية في اسطنبول، وحول مقتله، يفترض أن يدور الصراع الاقليمي المتجدد، إن لم يكن الصراع العالمي.
لا يتصل الأمر هنا بسيل التحليلات التي تحاول مقاربة المسألة من زاوية ضيقة، عنوانها العريض «احتمالات عزل محمد بن سلمان»، بحسب ما يأمل البعض في السعودية وخارجها.
لا مصلحة لأحد في التخلص نهائياً من محمد بن سلمان، فهو بالنسبة للكل «بقرة حلوب» سقطت، ولكن لم يحن وقت ذبحها، طالما أنها ما زالت تدرّ حليباً بالعملة الصعبة.
هذا الأمر يفسر إلى حد كبير تذبذب موقف دونالد ترامب من قضية جمال خاشقجي، وتدرّج الخطاب التصعيدي التركي من أسفل إلى أعلى، فالفرصة اليوم نادرة لابتزاز السعودية إلى أقصى حدّ، في حجم التنازلات، كما وفي المدى الزمني.
بالنسبة إلى دونالد ترامب، تبدو المسألة في غاية الوضوح: الهدف هو المال، ثم المال، ثم المال…
وبذلك يمكن توقع ارتفاع وتيرة التصعيد الأميركي تجاه بن سلمان تارةً، وانخفاضه طوراً، تبعاً لحركة الأموال المتنقلة باتجاه واحد من الرياض إلى واشنطن.
أما بالنسبة إلى رجب طيب أردوغان، فالمسألة مختلفة، فالسلطان التركي المثقل بفشل أجندته الاقليمية – ابتداءً من مصر وصولاً إلى سوريا – وبالضغوط الداخلية بعد انقلاب العام 2016، تجعل ذلك المخطط الغبي لتصفية خاشقجي، فرصة ماسيّة، لتعويض إخفاقات السنوات الماضية.
ابتزاز تركي
لعلّ خطاب أردوغان الأخير كان معبّراً جداً عمّا يجول في رأس الرئيس التركي. ربما لم يتنبّه كثيرون إلى المقاربة التي اقترحها لآلية المحاسبة على الجريمة التي يفترض برأيه أن يتولاها القضاء التركي، والتي تستند إلى مسار، يبدو في ظاهره منطقياً، ولكن ترجمته على أرض الواقع تعكس أقصى درجات الخبث السياسي.
لقد طالب أردوغان بأن يحاكم المسؤولون عن تصفية خاشقجي من أسفل الهرم إلى أعلاه، بمعنى آخر من المنفذ الفعلي (الذي قتل وقطّع الجثة) إلى صاحب القرار (أي محمد بن سلمان).
لا يخفى الهدف من وراء ذلك، وهو ضمان ديمومة الابتزاز التركي للسعودية، على نحو متدرّج، وربما إلى ما لا نهاية، بحيث يمكن انتزاع ما يكفي من تنازلات سعودية من شأنها أن تعيد الدور التركي إلى الواجهة.
من المؤكد ان محمد بن سلمان قد التقط كل ذلك، وهو أطلق خلال يومين ماضيين إشارات مشفّرة، عكست رغبته في التنازل، بالرغم من أن هذه الإشارات قد غلّفت بثقة زائفة بالنفس.
الكلمة السر في هذا التوجه السعودي الجديد تضمنتها كلمة ولي العهد السعودي أمام المنتدى الاقتصادي الذي استضافته المملكة، حين حاول التودّد إلى قطر، وهو ما يعزز التكهنات بشأن وقف التصعيد بين الجانبين، غداة أشهر من القطيعة والعزلة.
وتكمن خطورة هذا الأمر، في أن التسوية مع قطر، ستعني عودة الثنائي «الإخواني» (أنقرة–الدوحة) للعب دور متجدد في المنطقة، بما ينسحب على سوريا والعراق واليمن وليبيا، وربما مصر، التي لم تهدأ الأحوال فيها سوى بالعزل الكامل لجماعة «الإخوان المسلمين».
بهذا المعنى، يمكن توقع تجدد الصراعات مرّة أخرى، على نحو من شأنه أن يعيد خلط الأوراق من جديد في الكثير من الملفات.
هذا ما يفسر، بطبيعة الحال، الموقف الروسي المتحفظ تجاه قضية جمال خاشقجي، وذلك قبل أسابيع قليلة من الزيارة التي سيقوم بها الرئيس فلاديمير بوتين إلى السعودية، وهي فرصة يفترض أن يسعى محمد بن سلمان إلى تلقفها، وأن يترجمها بتعزيز التقارب مع الروس على حساب الأميركيين، في محاولة للخروج من الورطة، وهو ما لن يتردد الرئيس الروسي في طرحه، بطبيعة الحال، طالما أن ثمة فرصة للبناء على التقاطعات السياسية التي في حال جرى استغلالها من قبل الطرفين على نحو جيّد، لتغيّرت المعادلات من جديد، على حساب الاندفاعتين الأميركية والتركية.
كل هذا يجري فيما بلد مثل لبنان غارق في تفاصيل ثانوية. إذ قبل سنوات، قال أحدهم إن «بلداً بهذه المساحة لا ينبغي أن يكون لديه هذا الحجم من المشاكل».
مع ذلك، تتعامل القوى السياسية في لبنان بمنطق أن تشكيل الحكومة الحريرية هي المحور الذي يدور حوله الكون! متجاهلة أن ثمة عواصف عاتية بدأت تتشكل بالفعل، وذلك تحت شعارات زائفة، من قبيل «النأي بالنفس»، الذي لن يتأخر الوقت حتى تبدو معه البلاد أشبه بالنعامة التي لن تنفع معها سياسة دفن الرأس في الرمال المتحركة!
Leave a Reply