المبادرة التي طرحتها روسيا بشأن ملف النازحين وضعت سريعاً على سكة التطبيقات العملية مع إعلان وزارة الدفاع الروسية عن تخصيص معابر للعودة، وتشكيل مركز تنسيق على مستوى إقليمي لتحقيق هذا الهدف.
الخطوة الروسية ملفتة في توقيتها، بطبيعة الحال، فالكشف عنها أعقَب مباشرة قمة هلسنكي بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، والتي يشي النزر اليسير مما سرّب من تفاصيلها، بأنّ ثمة توافقات معيّنة، ولو بالحد الأدنى، بين الطرفين في ما يخص الأزمة السورية التي باتت كافة مفاصلها لدى الجانب الروسي في ظل تلميحات أميركية بالتخلي عن هذا «الصداع» في حال التوصل إلى تفاهمات شاملة.
في مجمل الأحوال، فإنّ التوجهات العامة للإدارة الاميركية يمكن استنتاجها من التسريبات الإعلامية وتقارير المراكز البحثية، والتي تدور في مجملها حول هدفين أساسيين، يتمثل الأوّل في تلبية المطلب الإسرائيلي الأكثر إلحاحاً، والذي يتمثل في «تحييد» ما تصفه إسرائيل بـ«الخطر الإيراني» عند الجولان، فيما يدور الهدف الثاني حول ضمان المصالح الأميركية من البوابة الكردية في الشمال السوري.
جبهة الجولان
ومن المؤكد أن كفّة ميزان القوى في هذه التفاهمات تميل بشكل واضح إلى الجانب الروسي، ومن خلفها الدولة السورية، ولا سيما بعد المتغيّرات الميدانية الدراماتيكية التي شهدتها الجبهة الجنوبية، عقب خروج المسلحين مهزومين من ريف درعا والقنيطرة، واستئناف العمل بالمعبر الحدودي مع الأردن وصولاً إلى سيطرة الجيش السوري على معبر القنيطرة مع الجولان المحتل.
أما الجدل الدائر في الولايات المتحدة بشأن قمة هلسنكي، فلا يغيّر في الأمر شيئاً، خصوصاً أنّ الواضح من هذه الجلبة السياسية، أن موجة الانتقادات الموجهة إلى دونالد ترامب لا ترتبط بشكل مباشر بما يجري في سوريا، وإنما بموقفه «الهزيل» من روسيا بشأن تهمة التدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
كذلك، لا يغيّر في الأمر شيئاً أيضاً، الدخول الاسرائيلي المتجدد على خط الأزمة السورية، والذي اتخذ خلال الأيام الماضية أشكالاً متعددة، تفاوتت بين استئناف الغارات الجوية وإسقاط طائرة سورية، وتسهيل فرار عناصر مجموعة «الخوذ البيض»، وبشكل أو بآخر استخدام الورقة الداعشية مجدداً من خلال التفجير الانتحاري في السويداء… خصوصاً هذا التدخل تبدو أهدافه مرتبطة بتحسين شروط التفاهمات، بعد التحفظ الذي أبدته تل أبيب تجاه المقترح الروسي بشأن إبعاد القوات الإيرانية إلى عمق مئة كيلومتر من خط الهدنة في الجولان.
وأيّاً تكن طبيعة التحرّكات الحالية والمرتقبة على الجبهة السورية، فإنّ الثابت في المشهد العام هو أن الكل بات يتعامل مع الأزمة السورية من منطق أن التسوية السياسية آتية لا محال، وهو ما يفرض على كافة القوى الخارجية، إعادة تقييم مقاربتها للملف السوري، خصوصاً حين يتعلّق الأمر بإعادة الإعمار الذي يتطلع الكل إلى الحصول على حصة فيه.
البوابة الإنسانية
يمكن رصد مؤشرين عمليين على مسار العلاقات الدولية حول سوريا. الأول، هو التعاون غير المسبوق بين روسيا وفرنسا بشأن تقديم مساعدات إنسانية إلى نازحي غوطة دمشق؛ والثاني هو الرضى العام الذي قوبلت به المبادرة الروسية بشأن اللاجئين، بحسب ما تبدّى من نتائج الجولة التي قام بها وفد الكرملين ووزارة الدفاع ووزارة الخارجية الروسيتين إلى الدول المعنية بهذا الملف، واستعداد الأمم المتحدة للمشاركة في المحادثات الجارية ضمن مسار أستانا، لمناقشة المقترحات الروسية.
التحرّكات الروسية على أكثر من خط تشي بأنّ الخطة الروسية بشأن اللاجئين معدّة بدقة، وإن كانت تفاصيل خطواتها العملية تبقى رهناً بتعاون الدول المعنية مباشرة بهذا الملف، وتحديد الإجراءات الأكثر إلحاحاً لتأمين العودة بما يشمل الشق القانوني (إصدار قرارات عفو من السلطات السورية)، واللوجستي (معابر العودة، المساعدات الإنسانية)، وذلك بعد تثبيت التفاهمات السياسية التي يبدو أنها قطعت أشواطاً كبير مدفوعة بثلاثة عناصر أساسية، يتمثل الأول منها في أن الكل بات راغباً في سحب فتيل هذه القنبلة الإنسانية المتفجرة، فيما يرتبط الثاني بالمتغيّرات التي فرضتها روسيا على قواعد اللعبة في سوريا، ولا سيما بعد توافر المظلة الدولية عقب قمة هلسنكي، فيما العنصر الثالث اقتصادي ويتمثل في كون عودة اللاجئين رافداً ضرورياً للشروع في عملية إعادة إعمار سوريا.
خطة شاملة
بشكل عام، فإنّ الخطة الروسية تقوم على عناصر محددة في خطوطها العريضة، كشف عنها رئيس المركز الوطني لإدارة شؤون الدفاع الروسي الفريق أول ميخائيل ميزينتسيف الذي أقرّ بأن «ما يساعد على تحقيق التقدم في هذا الاتجاه هو الاتفاقات التي توصل إليها الرئيسان الروسي والأميركي خلال قمة هلسنكي والتي شهدت تقديم مقترحات محددة إلى الجانب الأميركي حول «تنظيم عملية عودة اللاجئين».
ووفقاً للمسؤول الروسي فإنّ المقترحات «وضع خطة مشتركة لعودة اللاجئين إلى الأماكن التي كانوا يعيشون فيها قبل النزاع، وخاصة عودة اللاجئين من لبنان والأردن، وتشكيل مجموعة عمل مشتركة روسية–أميركية–أردنية برعاية مركز عمان للمراقبة، وكذلك تشكيل مجموعة عمل مماثلة في لبنان».
بالإضافة إلى ذلك اقترح الجانب الروسي تشكيل مجموعة مشتركة لتمويل إعادة إعمار البنية التحتية السورية.
ومن أجل مساعدة السلطات السورية على عودة اللاجئين وإشراك دول أخرى ومنظمات دولية، أنشئ بقرار من وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو مركز تنسيق مشترك خاص بعودة اللاجئين إلى الجمهورية العربية السورية.
ويضم المركز المشترك مسؤولين من وزارتي الدفاع والخارجية الروسيتين، ومن المقرر توسيعه، وإشراك مسؤولين في هيئات ووزارات أخرى في عمله، كما من غير المستبعد مشاركة ممثلي الدول الأجنبية والمنظمات الدولية في عمله.
وتقدّر وزارة الدفاع الروسية أنه في الفترة من 2011، أي منذ بدء الأعمال القتالية، وحتى اليوم، غادر سوريا 6 ملايين و900 ألف شخص، غالبيتهم يعيشون حالياً في 45 بلداً حول العالم.
واستناداً إلى الأهداف الروسية المرتبطة بخطة العودة فإنّ «أكثر من مليون و700 ألف شخص قد يعودون قريباً إلى أمكان إقامتهم الدائمة».
بشكل عام، فإنّ المصادر الروسية المواكبة لهذا الملف تتحدث عن خطة متكاملة لعودة اللاجئين، لكنّها تقرّ بأنّ التحرّك الحالي لا يزال في إطار «الاستطلاع»، سواء على المستوى السياسي أو على المستوى المعلوماتي الذي يتطلب جهداً حثيثاً من قبل كافة الأطراف، في ظل تضارب المعطيات الرسمية بشأن أعداد اللاجئين وظروفهم وأماكن إقامتهم، وهو أمر يعود إلى جانبين أساسيين، الأول تفاوت طبيعة اللاجئين بشكل عام، بين لاجئين سياسيين–أمنيين ولاجئين اقتصاديين؛ والثاني هو العشوائية التي قاربت من خلالها بعض الدول هذا الملف، كما هي الحال في لبنان، حيث تتفاوت الأعداد المعلنة من جانب المفوضية العليا لشؤون اللاجئين من جهة، وبين الأعداد المتواجدة فعلياً.
وعلى هذا الأساس، فإنّ العنصر الأساسي الذي يطلبه الروس في الوقت الراهن هو تأمين معلومات على درجة عالية من الدقة بشأن اللاجئين، باعتبارها خطوة ضرورية على المستوى اللوجستي للشروع في الإجراءات العملية للعودة.
وبحسب المصادر الروسية، فإنّ الدول المعنية أبدت استعداداً كبيراً للمساهمة في هذه الخطوات من خلال جهود مشتركة تقوم بها الأجهزة السياسية والأمنية لإجراء ما يمكن اعتباره «احصاءاً شاملاً» يمكن أن يشكل أرضية صلبة لإنجاز المهمة، في موازاة تقدّم مسار الاتصالات السياسية.
ارتياح
في العموم، فإنّ الجانب الروسي يبدي ارتياحاً لتقدّم العمل في الشق السياسي، خصوصاً أن الاتصالات التي جرت على أرفع المستويات بين مسؤولي وزارتي الخارجية والدفاع مع الجهات المعنية، أظهرت إجماعاً على القبول بالخطوط العريضة للخطة الروسية المقترحة.
وفي هذا السياق، فإنّ مصدراً روسياً يعطي مثالين واضحين على هذا التقدّم. المثال الأول هو الحالة الأردنية، حيث ساهمت الاتصالات السياسية في حل سريع لأزمة اللاجئين العالقين عند الحدود مع سوريا، قبل أسابيع، والمعطيات الرسمية التي تشير إلى تسهيل السلطات الأردنية عودة 200 لاجئ، كمعدّل يومي، إلى درياهم.
وأمّا المثال الثاني، فهو الحالة اللبنانية، حيث كان واضحاً أن ثمة إجماعاً على التعامل بإيجابية مع الطرح الروسي، حتى لدى الأطراف التي كانت تطرح عراقيل أمام عودة اللاجئين لأسباب مختلفة.
وفي بلد مثل لبنان، فإنّ مجرّد التوافق السياسي على أمرٍ ما، برغم كل الاصطفافات السياسية القائمة، يعد مؤشراً على أن ثمة غطاءاً دولياً وإقليمياً –أو على الأقل قبول ضمني– بضرورة تسريع الحل، لا سيما أن التجارب التاريخية والحالية تظهر دوماً أن المناكفات أو التوافقات الداخلية في لبنان تشكّل في الواقع انعكاساً لتباينات او تفاهمات خارجية.
Leave a Reply