كمال ذبيان – «صدى الوطن»
في الذكرى المئوية لولادة «دولة لبنان الكبير» على يد القابلة الفرنسية، استجابت الطبقة السياسية في لبنان إلى ضغوط الرئيس إيمانويل ماكرون، بتكليف رئيس حكومة جديد، بإيعاز من سيد الإليزيه الذي كان قد تمنى على القوى السياسية خلال اجتماعه معها في قصر الصنوبر (مقر السفارة الفرنسية) قبل نحو شهر، الإسراع في تشكيل حكومة جديدة للبدء بتطبيق إصلاحات مستعجلة وإنقاذ البلاد من الانهيار التام.
الوصاية الفرنسية، التي وصلت إلى حد تحديد اسم رئيس الوزراء من قبل ماكرون الذي اختار سفير لبنان في ألمانيا الدكتور مصطفى أديب، وقد التزمت به معظم الأطراف السياسية، ذكّرت اللبنانيين، بـالوصاية السورية، عندما كانت تشكل الحكومات بـ«غمضة عين»، وبقرار سوري يصدر من دمشق، أو من المندوب الأمني في عنجر، دون اعتراض.
الاهتمام الفرنسي
اهتمام فرنسا بلبنان، الذي تعتبره باريس موطئ قدم لها في شرق المتوسط منذ استعماره وفق اتفاقية سايكس–بيكو عام 1916، ليس جديداً رغم تراجع النفوذ الفرنسي واضمحلاله خلال العقود الماضية إلا أن باريس كانت دائماً تحاول ألا تخرج من لبنان سياسياً واستراتيجياً، لاسيما بسبب موقعه الجغرافي المتميز بين قارات العالم القديم، آسيا وأفريقيا وأوروبا.
فلبنان منذ استقلاله ظل مرتبطاً ارتباطاً ثقافياً وثيقاً بـ«الأم الحنون» فأبقى على اللغة الفرنسية كلغة ثانية بعد العربية، وهو يعتبر من الدول الأساسية في المنظومة «الفرنكوفونية». لكن نفوذ باريس السياسي في بلاد الأرز تعرض لنكسات عديدة عبر تاريخ لبنان المعاصر، حيث حلّت بريطانيا مكانها في العام 1943، ثم دخل النفوذ الأميركي في العام 1958 ولم يخرج منه إلى يومنا هذا.
ولكن مع تراجع الأجندة الأميركية في الشرق الأوسط، وبروز تعقيدات جيوسياسية جديدة في المنطقة والحاجة إلى حفظ المصالح الغربية في لبنان، تعود فرنسا بقوة هذه المرة إلى المسرح اللبناني بتبني دور إيجابي منفتح على كافة الأطراف الداخلية، وهي التي كانت قد حاولت استعادة دورها في مراحل سابقة، من مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الذي قاده الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، وانتهى بفشل عدوان تموز في صيف 2006، مروراً بمؤتمرات باريس الاقتصادية ومبادرة الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، بعقد مؤتمر «سان كلو» لإعادة النظر في النظام السياسي اللبناني الذي حدده اتفاق الطائف في السعودية.
كذلك رعت باريس مؤخراً، مؤتمراً اقتصادياً–مالياً تحت اسم «سيدر» (الأرز)، لمساعدة لبنان بقروض وهبات للنهوض بالاقتصاد وتأمين فرص عمل من خلال مشاريع استثمارية، قُدّرت بنحو 300 مشروع، تقدّمت بها حكومة الرئيس سعد الحريري الذي تعهد للدول المانحة بتطبيق سلة إصلاحات اقتصادية ومالية مقابل الحصول على القروض والهبات الخارجية، لكن عجز النظام اللبناني والمناكفات السياسية والمصالح الفئوية، حالت دون تحقيق أي إصلاحات، لاسيما في قطاع الكهرباء، كما في المالية العامة، وقد بلغ الدين العام نحو 90 مليار دولار، مع خدمة فوائد سنوية تزداد عاماً بعد آخر.
إلا أن تلك المبادرات لم تمكن باريس من استعادة بريق نفوذها السابق في لبنان الذي بات على شفير الانهيار التام، لتجد فرنسا –اليوم– نفسها أمام فرصة مؤاتية للعودة بقوة إلى الدولة التي أنشأتها قبل مئة عام، في الأول من أيلول 1920.
فمع تردي الأوضاع المعيشية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة وزيادة الرسوم والضرائب فضلاً عن تجذر الفساد وإهدار المال العام وسوء إدارة القطاع المصرفي الذي سمح بتهريب مئات مليارات الدولارات، وانفجار الشارع بوجه الطبقة السياسية المرتبكة، وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت الكارثي، أصبح لبنان على وشك الانهيار والزوال، بحسب إدارة ماكرون الذي سارع إلى وضع سلسلة شروط لإنقاذ الوضع، وعلى رأسها تشكيل حكومة جديدة قادرة على تطبيق إصلاحات جذرية.
فالرئيس الفرنسي يشدّد على قيام حكومة تلتزم بالإصلاحات في الكهرباء والمصرف المركزي وهيكلة المالية العامة، ومحاربة الفساد، ودون ذلك فإن لبنان ذاهب إلى الزوال كدولة، وقد أعلن ذلك صراحة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، الذي تحدّث عن انهيار الدولة في لبنان واختفائها، في حين تخوّف الرئيس الفرنسي من أن يذهب لبنان إلى حرب أهلية، تؤشر لها، سلسلة من الحوادث الأمنية والمعارك العسكرية، وكان آخرها الحادث الأمني في خلدة، الذي كاد أن يتوسع لولا الاتصالات السياسية والأمنية التي نجحت في نزع فتيل الحادث، الذي اتّخذ طابعاً مذهبياً في إطار إحياء ذكرى عاشوراء.
تكليف أديب
وفي ظل الأوضاع السياسية المعقدة، وانقسام اللبنانيين، وتفلت الأمن، وتفاقم الوضع الاقتصادي والاجتماعي لاسيما بعد انفجار مرفأ بيروت، واستقالة حكومة الرئيس حسان دياب، جاء تكليف البديل، السفير مصطفى أديب، بعد تدخل فرنسي مباشر، وسحب ترشيح الرئيس سعد الحريري الذي لم يستطع أن يخرج من دائرة الشروط السعودية الرافضة لتشكيل حكومة تضم «حزب الله».
وفي سياق مسلسل التصويب على رئاسة الجمهورية، تعرض الرئيس ميشال عون لاتهامات بتأخير الاستشارات وخرق الدستور، قبل أن يتبين أن ماكرون كان قد أعطى القوى السياسية خلال زيارته الأخيرة في 6 أغسطس الماضي، مهلةً قصيرة إلى حين عودته للاحتفال بمئوية «دولة لبنان الكبير»، فاتصل عون بالأطراف السياسية الأساسية، وأبلغهم باسم السفير أديب، كمرشح فرنسي.
وأديب متزوج من فرنسية، وقد علّم في العديد من جامعات فرنسا، وهو خريج منها، وله شبكة علاقات دولية وعربية، من موقعه الدبلوماسي، كما أثناء توليه مدير مكتب الرئيس نجيب ميقاتي أثناء توليه رئاسة الحكومة.
وقد حصل ترشيح أديب على تأييد، رؤساء الحكومات السابقين، بناء على إشارة فرنسية، بعد أن سقط اسم سفير لبنان في الأمم المتحدة نواف سلام، المرغوب أميركياً، والمرفوض من قبل «الثنائي الشيعي»، كما من الحريري والرئيس تمام سلام، ليستقر الرأي على السفير أديب الذي لَقِي تأييد الكتل النيابية الأساسية، ونال 90 صوتاً.
سرعة تكليف أديب بناء على إيعاز فرنسي، جاءت شبه مطابقة للنموذج السوري في إدارة لبنان بعد اتفاق الطائف، حيث كانت الحكومات وقوانين الانتخابات تفرض من الخارج، وهو ما اعتاده اللبنانيون منذ نشأة دولتهم، بل حتى منذ زمن حكم القناصل خلال القرن الثامن عشر.
الحكومة الجديدة
وكما كان التكليف سريعاً، بقرار فرنسي، فإن التأليف لن يطول وفق مصادر سياسية، لأن ماكرون، الذي حيّد الحديث عن سلاح المقاومة، بات المندوب السامي الجديد في لبنان وقد أعلن أن ولادة الحكومة الجديدة يجب أن تكون خلال أسبوعين للبدء بتطبيق إصلاحات فورية بحلول شهر تشرين الأول القادم، وإلا فسيتم وقف المساعدات المالية.
أما عن شكل الحكومة المستعجلة –بحسب المصادر– فسيكون قوامها وزراء من خريجي الجامعة اليسوعية أو الجامعات الفرنسية، لديهم غطاء سياسي من الكتل الوازنة، كما حصل في حكومة دياب، التي كان معظم وزرائها من خريجي الجامعات الأميركية.
Leave a Reply