كمال ذبيان
في الثمانينات من القرن الماضي، ظهر نجم «المقاومة الوطنية» في لبنان ومن بعدها «الإسلامية» في مقاتلة الإحتلال الإسرائيلي منذ غزوه للبنان في 4 حزيران من العام 1982، وقد تصاعدت عمليات المقاومة مع دخول العدو الصهيوني بيروت، بعد أن كانت المواجهة معه في خلدة والأوزاعي والشيّاح والمتحف لمنع إحتلاله للعاصمة التي خرج منها ضباطه وجنوده مذلولين بعد أيام على اجتياحهم لها، وهم يصرخون «لا تطلقوا النار علينا إننا راحلون»، بعد أن تمّ تكبيدهم خسائر بشرية ومادية في معظم شوارع بيروت الغربية في الحمراء (الويمبي)، برج أبي حيدر، المزرعة، البربير، المتحف، الصنائع، زقاق البلاط إلخ…
في ذلك الوقت، كان المسؤولون الأميركيون في إدارة رونالد ريغن، ومعه وزير الخارجية جورج شولتز يصفون المقاومة بـ«الإرهاب» وينعتونها بشتى النعوت، فسماها شولتز بـ«وباء الكوليرا»، وكل ذلك لإرضاء الكيان الصهيوني و«اللوبي اليهودي» داخل الإدارة الأميركية ومؤسسات المجتمع الأميركي، والتماهي مع التوصيف الإسرائيلي للمقاومة بـ«الإرهاب»، قافزين فوق ما وصفت به الأمم المتحدة «إسرائيل» بأنها دولة عنصرية قامت على الإغتصاب والإرهاب، وصدرت بحقها عشرات القرارات الدولية التي تدينها وتجرّمها.
ومع التوصيف الأميركي للمقاومة بأنها إرهاب، طالب الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بعقد مؤتمر دولي للتمييز بين المقاومة والإرهاب، وقد ذكر العديد من الدول بشعوبها التي قاومت الإحتلال وناضلت من أجل الحرية، ومنها أميركا التي تفتخر بأحد قادتها الأبطال الذين ناضلوا من أجل الحرية جورج واشنطن الذي أقيم له تمثال في العاصمة الأميركية التي سميت على إسمه، وكذلك نضال شعوب أوروبية في فرنسا وبريطانيا وغيرهما ضد الإحتلال النازي، الى نضال شعوب عربية ضد الغزوات والإحتلالات التي تعاقبت على دولهم.
لكن الإدارة الأميركية سواء كانت جمهورية أو ديمقراطية، يهمها فقط «أمن إسرائيل»، وهي مَن صنعت تنظيم «القاعدة» عندما استقدمت «الإسلام السياسي الجهادي» لمقاتلة النظام الشيوعي «الملحد الكافر» في أفغانستان كما وصفته، وقد أقامت مخيمات تدريب لمقاتليه في أميركا نفسها، وموّلت «حركة المجاهدين» الأفغان ومن أتت بهم من دول عربية وغير عربية للجهاد ضد الإلحاد، وتمكّنت بمساعدات خليجية من أن تهزم النظام الشيوعي في أفغانستان ليحكم «الإسلام السياسي» من خلال «حركة طالبان» التي أول ما قامت به هو تصفية «الثوار» الذين شاركوها القتال ضد الشيوعية، لانهم لا يدينون بنهجها الفكري أو العقائدي وتفسيرها للإسلام والفتاوى التي كانت تصدر باسمه، فحصلت حرب إبادة ضد الشيعة (الهزارة)، واغتيال قادة منهم، كما من حركات إسلامية سنّيّة، وإقامة نظام حكم مستمدّ من الشريعة الإسلامية كما ادّعى الطالبان، فمنعت الفتيات من التعليم، وأزيلت الأضرحة، وقطعت الأيدي، وعوقب الناس بالجلد، وانتقلت أفغانستان الى التخلف والجاهلية والصراعات الداخلية والحروب الدامية، وباتت بؤرة للإرهاب برعاية ووصاية أميركية، فكان يتمّ تصدير «المجاهدين» منها الذين سموا بـ«الافغان العرب» لتدمير المجتمعات الكافرة والدول التي لا تقيم «حكم الإسلام»، فكانت الحرب على الجزائر التي دامت نحو عشر سنوات وسقط فيها أكثر من مئتي ألف قتيل، ولم تنتهِ ذيولها بعد توقفها قبل عشر سنوات، ثمّ انتقلت الأعمال الإرهابية الى مصر والسودان وتونس، وكانت أولى عملياتها في مطلع الثمانينات قد تركّزت على سوريا لما تمثّله من موقع متقدم في مواجهة العدو الإسرائيلي، إذ قامت جماعة «الإخوان المسلمين» بسلسلة أعمال أمنية لإسقاط النظام السوري، ولكنها فشلت، وهذا ما أعادت تكراره قبل أربع سنوات مع إنطلاقة ما سمي «الثورات العربية»، حيث أتفق «الإخوان المسلمون» مع المسؤولين في الإدارة الأميركية على أن يحكموا بديلاً عن «الأنظمة الدكتاتورية»، وهم سيؤدون دوراً مهدئاً للشعوب ضد السياسة الأميركية في العالم، التي يتصاعد العداء لها، لاسيما موقفها المؤيّد لـ«إسرائيل»، وللأنظمة المستبدة والتي تتوارث السلطة التي تستخدمها لتكريس الأموال وبناء القصور، في وقت تعيش شعوبها حالات من الفقر والجوع والإذلال، مما انعكس سلباً في النظرة الى أميركا على أنها عدوة الشعوب المسلمة، فكانت أحداث 11 أيلول ضدها، والأعمال الإرهابية التي استهدفت برجين في نيويورك ووزارة الدفاع، نتيجة لما تتسبّبه السياسة الأميركية في دعمها لأنظمة تقهر شعوبها، فارادت تغيير أدائها وسياستها وكانت البداية من تركيا بوصول «حزب العدالة والتنمية»، وهو يعتمد برنامج الإخوان المسلمين، لتلعب تركيا دوراً في أن تصل أحزاب «الإخوان المسلمين» في العالم العربي والإسلامي الى الحكم بموافقة أميركية، التي أطلقت إدارة الرئيس جورج بوش ما سمّتها «الثورات الملوّنة» في العالم لتعميم الديمقراطية، وقيام «شرق أوسط جديد» في العالم العربي، والتعاون مع «الإسلام السياسي المعتدل»، فتمّ تحريك الوضع في تونس ثمّ في مصر وليبيا واليمن وسوريا وقبلهم في السودان والجزائر والعراق، فعمّت «الفوضى الخلاقة»، مما أتاح للجماعات التكفيرية والإرهابية أن تظهر، بعد أن كان الرئيس بوش قد أعلن أنه خاض حربين في أفغانستان والعراق من أجل ضرب الإرهاب، الذي تسبب بـ11ايلول بإسقاط حكم طالبان في أفغانستان ونظام صدّام حسين وحزب البعث في العراق، لكن النتيجة كانت وبعد أكثر من عقد على الحرب ما أسماه بوش الإرهاب، أنه تجذّر في البلدين المذكورين، وأعاد تنظيم «القاعدة» الذي أسّسه أسامة بن لادن كإطار عالمي، على أن يشمل العالم كلّه، بالرغم من مقتل مؤسسه في باكستان من قبل المخابرات الأميركية قبل ثلاث سنوات، وافتخر الرئيس الأميركي باراك أوباما بما أنجزه، دون أن يبث خبر اعتقاله وموته ودفنه، وبقيت الرواية غامضة وفيها حبكة بوليسية أمنية لم يكشف لغزها بعد، سوى أن جثة بن لادن رميت بالبحر، لكن تنظيمه بقي قوياً في اليابسة، وقد أصبح عالمياً، ومعه تعولم «الإرهاب» بما هو توصيف للقتل والدمار وعمليات التفجير للمدنيين، وفتاوى التكفير، ورفع شعار للجهاد ضد الصليبيين والكفار والمرتدين من المسلمين واعتبار كل المجتمعات كافرة يجب تهديمها وإسقاط دولها وأنظمتها، لإقامة حكم «الشريعة الإسلامية وما أمر به الله».
فتنظيم «القاعدة» الذي وُلد من رحم الإستخبارات الأميركية، وتعاونت معه في أكثر من دولة، قد تحوّل الى خطر على الولايات المتحدة الأميركية، كما على الأنظمة التي موّلت ودرّبت وسلّحت مجموعات إسلامية، واستخدمتها في معاركها وحروبها ضد دول ومجتمعات لتفتيتها، وهذا ما حصل في أكثر من دولة، إذ تحوّلت سوريا الى ساحة جهاد لكل الجماعات التكفيرية التي استقدمت من دول عدة، حتى من أميركا وأوروبا وقد بدأتا تتحسسان الخطر الداهم على هذه الدول، مع عودة «المجاهدين» من سوريا والعراق ودول أخرى ذهبوا للقتال فيها، إذ أظهرت الوقائع أن آلافاً من جنسيات أوروبية وأميركية وآسيوية وأخرى أفريقية وعربية، يقاتلون في سوريا، وأن من بين هؤلاء مَن قاموا بعمليات إنتحارية، وما سيكون تأثيرهم السلبي على الدول التي سيعودون إليها، إذ استنفر الرئيس الأميركي أجهزته من أجل مواجهة المجموعات التكفيرية، وطالب الدول الأوروبية إتخاذ الإجراءات في المطارات وداخل اراضيها لمنع عودة التكفيريين أو اعتقالهم، حيث دبّ الرعب في الدول التي سبق وأصابها الإرهاب، إذ لم يترك تنظيم «القاعدة» بفروعه المنتشرة في العالم التي تدين بفكره وممارساته ولو بأسماء متعددة، أية دولة من أن يفجّر فيها سيارة مفخخة أو فندقاً أو مركزاً تجارياً أو تجمعاً عسكرياً إلخ…
فالإرهاب كانت تمارسه دول فتحول ايضا الى منظمات وجماعات، فتخوض معاركه وحروبه التدميرية في كل المجتمعات، بعد أن أعلن أبوبكر البغدادي دولته الإسلامية التي أقام نواتها في غرب العراق وشماله وصولاً الى شمال وشرق سوريا، ووُلي خليفة عليها، وألقى خطبة يتوعّد فيها دولاً في العالم، أن خلافته ستمتد إليها وعلى المسلمين طاعته، وهو ما يؤشّر الى أن ما سماه المفكر صاموئيل هانتغتون «حرب حضارات» أو «أديان»، وقد أثار طرحه نقاشاً حول ما ذكره في مقال له قبل سنوات، وإذا بالوضع الذي يعيشه العالم اليوم قد يفسّر ما كتبه هانتغتون في مقاله وتراجع عنه، وصدرت بوجهه مقولة «حوار الحضارات» أو الثقافات، وهذا صحيح، لكن ما يجري على مستوى العالم هو إرهاب «معولم» تحت إسم «الإسلام الجهادي» الذي لا يتبنّاه رجال دين مسلمون بارزون وفقهاء وعلماء، إلا مَن يريد تشويه الإسلام.
Leave a Reply