خليل إسماعيل رمَّال
إنَّ الذي يراقب الحالة السياسية في لبنان بعد الانتخاب «القيصري» العسير للجنرال ميشال عون ويرى هذه السلاسة في إطلاق العملية السياسية والسرعة في الاستشارات النيابية المُلزِمَة ثم هذه الإنسيابية في تكليف سعد الحريري لرئاسة الحكومة، أولاً يشعر بالارتياح لهذه الإنجازات «القيِّمة» لكنه لا يملُك إلا أنْ يتساءل: إذا كانت الأمور بهذه السهولة والبساطة فلماذا لم تتحقق قبل عامين ونصف، كان البلد خلالها واقفاً على قدم ونصف؟! بل لماذا انتظر سعد «المستقتل» اليوم للوصول إلى السراي الحكومي، كل هذا الوقت لاتخاذ قراره الذي روَّج البعض بأنه كان شجاعاً وهو أبعد ما يكون عن ذلك لانه لم يُتَّخَذْ في ظل معارضة سعود الفيصل! لو كان قرار سعد شجاعاً فعلاً لوفَّر على البلد كل هذا الوقت الضائع بالرضوخ والنَّخ مبكِّراً للأمر الواقع الذي لم يكن منه مفر ولكانت حُلَّتْ أزمة قانون الانتخاب وربَّما لما طمرت النفايات البلد! القرار الحريري للأسف كان مصلحياً وأنانياً ونفعياً بالدرجة الأولى بعد الإفلاس المالي الذي كاد يلحقه الطفر السياسي خصوصاً بعد تمرد الشارع السُنِّي واستغلال ريفي له وبذور تدخُّل بهاء الحريري بشؤون شقيقه من خلاله!
إن القائد الشجاع الأول والحقيقي الذي ساهم لوحده في تجاوز هذا القطوع، هو الذي وعد ووفى وصمد ولم تتغير ثوابته بين هذا المرشَّح وذاك. السيِّد حسن نصرالله هو هذا القائد الصادق الذي لم يسمح للحريري، ولا الذي أكبر منه، بالنكث بوعده للجنرال في دعمه للوصول المستحِق إلى قصر بعبدا، رغم «دندلة» سعد لجزرة مغرية شهية أمام المقاومة هي ترشيح الحليف و«نور عين» السيِّد، سليمان فرنجية. الشجاعة هي الثبات والمبدئية والمواقف التي لا تتزعزع وهي صفات قائد المقاومة. هذه الأخلاقية والأريحية هي التي أوصلت عون للرئاسة وحلَّت أزمة البلد لا قرار الحريري (الشكلي والتحصيل الحاصل) ولا دعم سمير جعجع بأصوات حفنة من نوابه المعدودين، والذي ما فتئ يُحرِّض ويفتِن بين «التيَّار الوطني الحر» والمقاومة حتى بعد الإنتخاب الرئاسي، ربَّما للتخفيف من وقع الهزيمة المُنكَرة على فريقه السياسي! وربَّما دور «الحرتقة» على العهد الجديد ينفع جعجع الآن ليبقى يشعر به الرئيس العماد، بعد أنْ انتفت الحاجة العونية «الشكلية» اليه وقد يصبح مجرد قشر برتقال. فعون يعرف بالنهاية أنه لولا ترشيح الحريري لفرنجية لما قرر جعجع أخيراً وعلى مضض تأييد الجنرال. وليكن الأمر واضحاً جداً للقاصي والداني والواقف والمطأطىء الحاني، ليس الحريري ولا جعجع من أنقذ البلد من الدوران في حلقة فارغة كادت تودي به إلى التهلكة، بل ذاك المقدام الواقف وراء كواليس لا يعلم مكانها إلا الله والراسخون في أمنه!
إذاً، أصبح للبنان رئيس جمهورية جديد وانتهى الشغور مما بعث بموجة تفاؤل وأمل لدى غالبية اللبنانيين بنصر خيارهم وحصول فرصة (بريك) لالتقاط الأنفاس بينما المنطقة من حولهم تزداد اشتعالاً. ويبدو أن وجه عون، بعكس الياس سركيس وخليفته، يبشِّر بالخير لانه لم يكد ينقضي العصر على وجوده في القصر حتى جاء نبأ دخول أطراف الموصل على يد أبناء العراق الأشاوس وأبطال الحشد الشعبي، وعقبال الإنتصار الكبير في سوريا التي مازال التحالف الأميركي-الوهَّابي يتآمر عليها من خلال السماح لقادة الدواعش المجرمين بالفرار اليها كالجرذان (وقد أشار ترامب إلى خديعة الإعلان مُسبقاً عن خطة تحرير الموصل لإنذار الشياطين) وخصوصاً كبيرهم الهارب البغدادي.
مهمة الرئيس العماد الأولى تبقى تحصين الوضع الداخلي من الشوائب التي اعترضت انتخابه والتي تقصَّد الفريق المعادي جعلها مهزلة ومسخرة من خلال إعادة الإنتخاب أربع دورات رغم الإدارة الجدية للرئيس بري الذي أثبت مع أنه ضد انتخاب عون بقي خصماً شريفاً فأدار اللعبة الديمقراطية بحزم رغم قدرته على التعطيل وتطيير النصاب. لقد أراد الفريق المعارِض استفزاز الجنرال وتنغيص لقمة الرئاسة عله حتى آخر لحظة وإخراجه عن طوره لكن خاب أملهم بمفاجأته لهم بالتحلي بهدوء أعصاب فولاذية «نصراللاوية». وهنا يحق القول بأنَّ الحسنة الوحيدة لتكرار الدورات هي مقاصصة مروان حمادة بإعلان إسم ميشال عون ٨٣ مرة في كل دورة. ولكن بعيداً عن سيل النكات التي أطلق عنانها شعب لبنان الفكاهي العظيم قبل وبعد الانتخاب بحيث كاد أنْ يتفوق بها على الشعب المصري المهضوم، رغم الكوارث المعيشية والبيئية والصحية التي تُحيق به من كل جانب بل وكأن لديه متسعٌ من الوقت لذلك، إلا أنَّ المسخرة التي أظهرها أحد النوائب بوضع إسم العارضة مريام كلينك وزوربا هي فعل متعمَّد يصل إلى حد التزوير ويستحق العقاب-لكن طبعاً في بلد غير لبنان. وعلى ذكر العقاب فإن النائب الصقر المهاجر منذ خمس سنوات إلى عالم مُعلني الحرب على سوريا والذي يقبض من خزينة الدولة كل مخصصاته من دون أنْ يدعس خطوة واحدة في المجلس، وهو أول من باشر بإرسال السلاح إلى سوريا بأوامر من معلِّمه وأسياده، اتُّهم بأنه هو من وضع ورقة كلينك بعد مقارنة خطه اليدوي (ليس فقط السياسي المنحرف مثله) بورقة الاقتراع. فإذا صح هذا الكلام (مع أنَّ تحليلي الأولي ان صاحب الورقة هو أحد ثلاثة: جنبلاط «المخشخش» بتغريدات تويتر هذه الأيام أو فتفت أو السنيورة لأسباب كيدية)، يعني ان هذا النائب المارق يكون قد حضر من منفاه المُرفَّه لكي «يُنمِّر» بوقاحة على الشعب اللبناني. والحقيقة لا ندري لماذا استدعى سعد ابنه الضال من الخارج وأمَّن له الحراسة من شعبة المعلومات وتكلف عليه كل هذا المال بينما صوته لم يقدَّم ولم يؤخر شيئاً؟! بل كان من المفروض على السلطات الأمنية أنْ تعتقل صقر على المطار بتهمة التآمر على دولة شقيقة وجارة وتسبُّبِه، من خلال توزيع السلاح (لا الحفَّاضات) على الإرهابيين القَتَلة، باستشهاد خيرة شباب لبنانيين وسوريين بينما هو يتنعَّم في بلجيكا، لا أنْ نجاريه في المزاح. لكن المشكلة ان الدولة المُساء اليها هي سوريا لا مملكة آل سعود! وعلى كل الأحوال وحسب لسان أكثرية اللبنانيين المقيمين والمهاجرين فإن مريام كلينك هي أشرف من معظم هؤلاء النوَّاب والمسؤولين لانها واضحة وصريحة ولا تتستر مثلهم خلف أغطية واهية بينما هم يرتكبون الموبقات ويحاضرون بالعفة والشرف.
من هنا فان أولويات العهد الجديد تصحيح العلاقة مع سوريا الأسد رغماً عن الحريري وصقر ومن لف لفهما، ومسح الضرر الذي ألحقه ميقاتي وميشال سليمان بهذه العلاقة من خلال الشكوى غير المسبوقة والمهينة ضد سوريا إلى مجلس الأمن، ثم إلغاء تمويل المحكمة الإسرائيلية السنيوريَّة التي فقدَتْ مصداقيتها ووظيفتها عدا عن عدم قانونيتها. على الرئيس عون الا يجتزأ الحلول لأنها كلها مترابطة ببعضها البعض وخصوصاً تثبيت المعادلة الذهبية المقاومة والشعب والجيش (بتصرف) والحرب الاستباقية على الإرهاب لأنه كما قال الإمام علي (ع) لجنده «أغزوهم قبل أنْ يغزوكم فوالله ما غُزِيَ قومٌ في عقر دارهم حتى ذُلُّوا». كما عليه ان يدفن إعلان بعبدا في مزبلة التاريخ لانه «الإنجاز» (!) الوحيد غير النافع بشيء لعهدٍ بائد، وقد بدأت تباشير ذلك بتخفيف الحراسة عن سليمان الذي كان يتجول مع ثكنة كاملة، ويبدأ حملة التطهير والفساد ووقف الإنحلال في مفاصل الدولة والمؤسسات ومحاربة المافيات ولا يسمح للحريري بتكبيل يدي العهد في الإبراء المالي والإطاحة بموظفي الدولة الفاسدين الذين خلقهم الله وكسر القالب ولا يمكن إحلال أحد مكانهم، بهذا يكون عون قد وضع أسس الجمهورية الثالثة.
Leave a Reply