كمال ذبيان
إستعاد العماد ميشال عون مرحلة مضى عليها 25 عاماً، عندما كانت حشود «شعب لبنان العظيم» تأتي الى القصر الجمهوري تبايعه وتعتبره منقذ الجمهورية التي شغرت رئاستها مع انتهاء عهد الرئيس أمين الجميّل فـي 23 أيلول من العام 1988، فعيّن حكومة عسكرية برئاسة قائد الجيش آنذاك العماد عون، وانتقلت صلاحيات رئيس الجمهورية إليها، إذ كان طموح مَن وصل الى القصر الرئاسي وجلس على كرسي الرئاسة دون أن يكون منتخباً، أن يصبح هو رئيس لبنان، وسعى الى ذلك عبر سوريا التي استقبله رئيسها آنذاك حافظ الأسد، الذي يقال إنه لم يكن سلبياً معه، لكن الظروف الإقليمية والدولية، لم تسمح أن يصل عون الى رئاسة الجمهورية التي اتفق الرئيس الأسد مع الموفد الرئاسي الأميركي ريتشارد مورفـي على أن يكون مخايل الضاهر رئيساً للبنان، لكن الرفض المسيحي له، قطع الطريق عليه.
منذ عقد الثمانينات من القرن الماضي، والعماد عون يضع رئاسة الجمهورية نصب عينيه، وكاد أن يحصل عليها، لولا الإتفاق الأميركي – السوري، فتحصّن فـي قصر بعبدا متشبثاً بانتخابه رئيساً للجمهورية، ولما لم تجرِ الرياح الإقليمية والدولية بما يشتهي، شنّ «حرب التحرير» ضد الوجود العسكري السوري فـي لبنان، فـي رسالة الى القيادة السورية أنها لم تساعد فـي وصوله، ثمّ فـي «حرب إلغاء» ضد «القوات اللبنانية»، لأنها كانت حليفته فـي مرحلة، ثمّ انقلبت عليه بالقبول بإتفاق الطائف الذي رفضه عون، بعد أن جرت انتخابات رئاسة الجمهورية فانتخب الرئيس رينيه معوض الذي اغتيل فـي ذكرى الإستقلال وبعد 20 يوماً على انتخابه، ثمّ انتخب بعده الرئيس الياس الهراوي، ورفض عون تسليم القصر الجمهوري ولم يعترف بشرعية الهراوي وحلّ مجلس النواب، ولجأ الى الشعب يحرضه على الطائف والمرحلة الجديدة، ويدعو الى إسقاط الحكم الجديد الذي كان يتهمه بالعمالة لسوريا، ولم تساعده الحشود البشرية التي كانت تؤم قصر بعبدا فـي أن يغيّر من اتفاق الطائف، ومن تلبية مطالبه، بالرغم من دعوته ليكون وزيراً للدفاع فـي حكومة جديدة، لكنه لم يقبل، وظنّ أنه بإلتفاف «الشعب» حوله، يستطيع أن يفرض شروطه والتي كان من أبرزها انسحاب القوات السورية من لبنان، واستعادة صلاحيات لرئيس الجمهورية سلخها إتفاق الطائف.
قضى العماد عون حوالي العام وأكثر يخطب فـي «الشعب العظيم» بشكل يومي، دون أن يغيّر فـي التسوية التي تمت فـي الطائف، ولا فـي تبديل المعادلة السياسية الداخلية، لأن القرار الدولي – الإقليمي اتّخذ فـي إنهاء الحرب الأهلية فـي لبنان، التي كانت انعكاساً للحرب الباردة بين القطبين الأميركي والسوفـياتي، وانتهاء صلاحية أن تكون الساحة اللبنانية صراع الآخرين عليها، ولم يعد للبنان وظيفة فـي استمرار الإقتتال بين أبنائه، وجاء انهيار الإتحاد السوفـياتي والمنظومة الإشتراكية، والغزو العراقي برئاسة صدام حسين للكويت فـي العام 1990، والذي كان حليفاً لعون فـي حربه ضد الوجود السوري فـي لبنان، حيث أدّت هذه التطورات الى اتخاذ قرار دولي – إقليمي بإنهاء تمرّد عون على الشرعية واقتلاعه من قصر بعبدا، فكانت المعركة عليه صباح 13 تشرين أول 1990، والتي انتهت بعد ساعتين من بدئها، الى إذاعة عون رسالة عبر وسائل الإعلام استسلم فـيها، ودعا ضباطه وجنوده الى وقف القتال، والإلتحاق بالجيش الذي يقوده العماد إميل لحود آنذاك.
إستسلم عون ونُفـي الى فرنسا فـي العام 1990، وعاد الى لبنان فـي العام 2005، وعينه تتطلع الى قصر بعبدا ولم تنسه سنوات المنفى رئاسة الجمهورية، ورأى أن حظوظه أصبحت قوية، مع خروج القوات السورية، التي كان انسحابها أحد عناوين نضاله السياسي مع تياره فـي لبنان، فخاض الإنتخابات النيابية بعد أن تمّ إخراجه من تحالف قوى 14 آذار، ليحصد أكبر كتلة نيابية مسيحية بحوالي 70 بالمئة من أصوات المسيحيين، وسماه البطريرك نصرالله صفـير زعيمهم، ووصفه النائب وليد جنبلاط بـ«التسونامي»، الذي أفزع الجميع لشعبيته، فاتخذ قراراً بإقصائه عن الحكومة، من خلال «التحالف الرباعي» الذي نشأ مع الإنتخابات النيابية، وتكوّن من الأطراف الإسلامية الأساسية «تيار المستقبل»، حركة «أمل» و«حزب الله» والحزب التقدمي الإشتراكي، وهذا ما أعطى عطفاً شعبياً لعون لدى المسيحيين.
وهكذا شعر عون بأنه مستهدف سياسياً، فأقام تفاهماً مع «حزب الله»، وكلا الطرفـين بحاجة له، لأن المقاومة كانت أيضاً مستهدفة بنزع سلاحها، وهو ما ورد فـي القرار 1559، وما تعهّد به فريق 14 آذار للإدارة الأميركية ووعد رئيس الحكومة فؤاد السنيورة بتطبيقه من خلال الحوار، لا بقوة السلاح لأنه يفتح باب حرب أهلية، وهو ما شجّع «حزب الله» أن يبحث عن حليف غير المستقبل والإشتراكي، فكانت ورقة التفاهم مع «التيار الوطني الحر» فـي 6 شباط 2006 التي حمت انتصار المقاومة فـي صد العدوان الإسرائيلي على لبنان ومقاومته فـي تموز 2006.
شكّل تفاهم عون مع السيد حسن نصرالله، رافعة لرئيس «التيار الوطني الحر»، الذي رأى أنه يمكنه من أن يقيم توازناً داخلياً ويخرج من العزلة السياسية التي حاول التحالف الرباعي أن يفرضها عليه، مع تقوية خصومه المسيحيين فـي 14 آذار الذين أُدخِلوا الى السلطة لاسيما «القوات اللبنانية» وحزب الكتائب، فـي وقت رأى «حزب الله» أن العماد عون كان صادقاً للتفاهم الذي أقامه معه واختبره فـي أثناء العدوان الإسرائيلي، وهكذا تشبّث به حليفاً، لكنه لم يمكنه من الوصول الى رئاسة الجمهورية فـي العام 2008، بالرغم من أن أحداث 7 أيار من ذلك العام، جاءت لصالح قوى 8 آذار، بتعديل فـي موازين القوى الداخلية، لكن التسوية الدولية – الإقليمية التي حصلت فـي الدوحة أخرجت عون من الرئاسة الأولى، لصالح مرشح توافقي هو قائد الجيش العماد ميشال سليمان.
وابتعدت رئاسة الجمهورية عن عون المرة الاولى فـي العام 1988 وبعد عشرين عاماً فـي العام 2008، وهو لن يكرّر تلك التجربتين بالرغم من أن القرار الخارجي هو الذي يتحكّم برئاسة الجمهورية، وهو يعتبر فـي هذا الاستحقاق أن الخارج يعطي فرصة لصناعة رئيس فـي لبنان، فمدّ خطوط حوار مع الرئيس سعد الحريري، ثمّ استتبعه بحوار مع «القوات اللبنانية» بعد أن تمّ رمي كرة إنتخابات رئاسة الجمهورية بتوافق المسيحيين حولها ، لكنه لم ينجح فـي إقناع الطرفـين بإنتخابه رغم لقائه سمير جعجع المتوقع والمفاجىء فـي الرابية وصدور ورقة نيات بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية الا ان رئاسة الجمهورية بقيت معلقة وفـي القفص الذهبي كما قال عون ، الذي لم يحصل على تأييد النائب وليد جنبلاط له الذي رشح النائب هنري حلو، وهو لم ينل موافقة الرئيس نبيه برّي الذي ربط دعمه له بحصول توافق على اسمه.
وراى عون فـي عدم دعم ترشيحه للرئاسة، أن ممثلي الأطراف الأخرى لا يريدون مرشحاً مسيحياً قوياً يتمتع بحيثية شعبية وسياسية ولديه كتلة نيابية وازنة من 27 نائباً مع حلفائه، كما يحظى بتأييده 57 نائباً، فلماذا محاولة إقصائه عن رئاسة الجمهورية التي يعملون لوصول مرشح يسمونه توافقياً على طريقة انتخاب العماد ميشال سليمان الذي يرفض عون تكرار هذا السيناريو، حتى لو استمرّ الشغور الرئاسي لسنوات.
وما يحصل مع رئيس «تكتل الإصلاح والتغيير» فـي موضوع رئاسة الجمهورية ينسحب أيضاً على قيادة الجيش التي أحيل القائد الحالي العماد جان قهوجي الى التقاعد قبل عام ونصف العام وجرى التمديد له مع رئيس الأركان اللواء وليد سلمان، ويجري التداول بتمديد ثانٍ لهما على غرار ما حصل لمجلس النواب الذي مُدّد له لدورة كاملة أربع سنوات، وهو ما رفضه عون، ويرفضه أيضاً فـي المؤسسات الأخرى لاسيما الأمنية والعسكرية، وطالب بتعيين مدير عام لقوى الأمن الداخلي مكان اللواء ابراهيم بصبوص الذي انتهت خدمته فـي 5 حزيران، حيث بحث هذا الموضوع مع الرئيس سعد الحريري الذي أكّد له أنه لا يمانع من تعيين قائد فوج المغاوير فـي الجيش العميد شامل روكز قائداً للجيش، وأنه هو لديه اسمان لمديرية قوى الأمن هما العميدان عماد عثمان وسمير شحادة، وسعى عون لإقناع النائب وليد جنبلاط الذي أيّد مؤخراً هذه التسوية التي نقضها الحريري، الذي طالبه جنبلاط العودة إليها حفاظاً على الإستقرار، ولضمان بقاء الحكومة التي هدّد عون بشلّها وتعطيل عملها إذا لم يستجب لمطالبه بتعيين العميد روكز قائداً للجيش لأنه يعتبر أن حقوق المسيحيين مغبونة، لجهة أن الآخرين يفرضون عليهم نوابهم وموظفـيهم فـي مؤسسات الدولة، إضافة إلى منع وصول الرئيس المسيحي الذي يمثّل، كما فـي مواقع السلطة الأخرى فـي رئاسة مجلس النواب ورئاسة الحكومة.
أمام هذا الواقع المسدود للعماد عون، لم يرَ إلا الشعب يعود إليه، وقد اقترح استفتاءه حول رئاسة الجمهورية، لكن مبادرته جوبهت بالرفض، ومنها إجراء انتخابات نيابية على قانون يضمن التمثيل الصحيح، وهو رآه فـي مشروع «اللقاء الأرثوذكسي»، لكنه جوبه بالرفض الإسلامي وتراجع قوى مسيحية عنه «كالقوات اللبنانية» بعد أن أيّدته.
وإزاء هذا الوضع استعاد العماد عون ذكريات قصر بعبدا، وقرّر استقبال الحشود الشعبية فـي منزله فـي الرابية، وزارته وفود من الطلاب وزحلة والمتن الشمالي، وبدأ يخطب فـيها، ويحثّها على تحضير نفسها للنضال من جديد، لتحصيل الحقوق المسيحية المسطو عليها، كما يقول لتياره الذي دعاه الى أن يكون جاهزاً لخطوات تصعيدية لم يفصح عنها، فهدّد بالإعتصام والتظاهر على المستوى الشعبي، وفـي تعطيل الحكومة على المستوى الرسمي، لأن القضية بالنسبة إليه هي حياة أو موت سياسي، فإما أن يحقق عون ما وعد به مناصريه أو أنه يفقد صدقيته وينفرط عقد مؤيديه الذين ناصروه فـي الأيام العصيبة، وتحملوا الإضطهاد والإعتقال والسجن والتشرّد.
فهل تعود أيام قصر بعبدا، وتحتل الرابية المشهد الذي كان قبل ربع قرن عندما خرج العماد عون الى جماهيره يستنهضها للسيادة والقرار الحر ويناديها بشعب لبنان العظيم؟
الظروف التي حكمت تلك المرحلة ليست مطابقة لما هو عليه الواقع السياسي اليوم، إذ تبدّلت دول وتغيّرت أنظمة، ولم تعد سوريا كما كانت، والحروب تشتعل من حول لبنان الذي بات الخوف على الجمهورية لا رئاستها، والقلق على الجيش أن يبقى موحداً وقادراً على صد الجماعات الإرهابية التكفـيرية، وليس على قائده، إذ أن التطورات خطيرة جداً والأوضاع معقدة، والحروب مديدة الى سنوات، والخرائط الجيوسياسية تُرسم من جديد، فهل قرأ العماد عون ذلك ليستدعي مناصريه الى الرابية، كي يناضل معهم من جديد، علّه يحظى برئاسة جمهورية لم يحصل عليها مرتين، ونُفـي بسببها 15 عاماً، ليعود وقد تغيّر وجه لبنان، الذي يتسبّب نظامه السياسي الطائفـي فـي كل الأزمات والحروب الأهلية؟.
Leave a Reply