عماد مرمل – «صدى الوطن»
عادة، تنتهي أي انتخابات طبيعية في العالم الى رابح وخاسر، ثم يبنى على النتيجة مقتضاها. هذا هو التفسير البسيط والشائع للديمقراطية. فقط في لبنان «المرهف» والمزدحم بالخصوصيات، يخرج الجميع رابحين وما من خاسر. حتى الانتخابات في لبنان أصبحت وجهة نظر، بدلاً من ان تكون فرصة لـ«القول الفصل» والرقم المجرد. لا أحد يعترف بهزيمته ولو رسب، ولا أحد يتواضع في انتصاره ولو أتى بشق النفس. التبريرات والذرائع جاهزة باستمرار لتجميل الهزيمة ولتضخيم النصر.
وبهذا المعنى، فان النتائج التي أفضت اليها الانتخابات البلدية في بيروت والبقاع وجبل لبنان خضعت الى التأويل والاجتهاد، تبعاً للهوية المناطقية أو للهوى السياسي. لم تكن الأصوات التي أفرزتها صناديق الاقتراع كافية لحسم النقاش حول الأحجام والخيارات، بعدما لجأ كل طرف الى تشريحها وتفسيرها على طريقته، وبما يتلاءم مع مصالحه.
في مدينة زحلة البقاعية التي كانت مسرحاً لأم المعارك، فازت لائحة الاحزاب المسيحية التي ضمت تحالف «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» و«حزب الكتائب»، لكن خصوم هذه الأحزاب اعتبروا أن اللائحتين المنافستين برئاسة النائب نقولا فتوش والسيدة ميريام سكاف هما، برغم تعثرهما، الاكثر تمثيلاً للمدينة، على قاعدة أن الجمع بين الأصوات التي نالتها كل منهما يعطي هاتين اللائحتين الأرجحية العددية على اللائحة الفائزة.
كسر عظم في جونية
وفي مدينة جونية الكسروانية، حيث دارت حرب شوارع انتخابية، فازت اللائحة المدعومة من «التيار الوطني الحر» بفارق ضئيل عن اللائحة المنافسة التي دعمتها شخصيات تنتمي الى النسيج العائلي (فريد هيكل الخازن، منصور البون، ونعمت افرام)، إضافة الى حصولها على دعم تحت الطاولة من قبل بعض مناصري «القوات اللبنانية» برئاسة سمير جعجع.
لكن حصيلة صناديق الاقتراع لم تنه المعركة، كما هو مفترض، بل كانت شرارة لسجال جديد، بعدما اعتبر الخاسرون أن حصيلتهم من الأصوات تؤكد أن هناك توازن قوى مع «التيار الحر» في منطقة تشكل عمقاً استراتيجياً للعماد ميشال عون (المنتخب نائباً عن كسروان) والذي زار جونية عشية المواجهة لشد عصب مناصريه، مشيرين الى أن الفارق البسيط بين اللائحة الرابحة وتلك المهزومة يشجع على الطعن في النتيجة، ومتهمين الفريق الآخر بدفع الرشى لاستقطاب بعض الناخبين. وللتقليل من شأن فوز عون، روج خصومه بأنه لم يربح بعضلاته وقدراته الذاتية، وانما بفضل الاصوات التي حصلها عليها من حزبي «الكتائب» و«الوعد» (حبيقة)، وصنعت الفارق الضئيل مع اللائحة المضادة.
والمفارقة، أن الانتخابات البلدية في جونية خرجت عن كونها محطة انمائية-محلية، لتكتسب بُعدا أوسع، يرتبط بانتخابات رئاسة الجمهورية، بعدما شعر عون بأن هناك من أراد ان ينصب له كميناً سياسياً في المدينة، عبر ضخ المال وتجميع القوى، لتحجيم شعبيته المسيحية وإضعاف ترشيحه للرئاسة في مواجهة النائب سليمان فرنجية، ما يفسر حرصه على زيارة المنطقة عشية العملية الانتخابية، لتعبئة جمهوره واستنفاره، برغم كل المحاذير الأمنية التي تكبل حركته.
وعلى قاعدة هذه البطانة السياسية للمواجهة الانتخابية، تعامل عون مع فوزه في جونية باعتباره انجازاً استراتيجياً، أحبط مخطط ضربه في عاصمة المسيحية المشرقية، وسمح له بان يبقى ممسكا بزمام المبادرة، ومتموضعا في موقع هجومي.
مفارقات
ومن المفارقات الأخرى التي واكبت المرحلتين الاولى والثانية من الانتخابات البلدية، نسج خيوط تحالفات هجينة جمعت بين خصوم وفرقت حلفاء، لاسيما في المناطق المسيحية، المعروفة بتنوعها، حيث اختلط الحابل بالنابل في أكثر من مكان. وهكذا نشأ تحالف بين «التيار الحر» و«حزب الكتائب» في لوائح عدة برغم خصومتهما السياسية الحادة، وافترق «التيار» عن «القوات» في جونية برغم تفاهم معراب الذي يجمعهما، فيما خاضا انتخابات زحلة معاً. وفي بعض المناطق الاخرى، كسن الفيل، انقلبت المعادلة، مع تحالف «التيار» و«القوات» في مواجهة «الكتائب» والنائب ميشال المر، كما أيد النائب المنتمي الى «التيار الحر» نبيل نقولا لائحة مدعومة من المر في احدى بلدات المتن، بينما وقف منسق قضاء المتن في «التيار» الى جانب اللائحة الاخرى!
وفي دير القمر في الشوف، خاضت «القوات» معركة ضد صديقها السياسي وابن البلدة رئيس حزب «الوطنيين الأحرار» النائب دوري شمعون، كما أن قريبته السيدة ترايسي شمعون والمعروفة بخصومتها الشديدة معه، انضمت الى لائحته في مواجهة «التيار الحر» الذي تعد ترايسي حليفته سياسياً، وغيرها من العجائب والغرائب التي رُبطت بخصوصية الانتخابات البلدية، حيث يبدو أن الحسابات والاعتبارات العائلية هي التي تفرض إيقاعها ووقعها على الكثير من القوى الحزبية، مهما علا شأنها.
وليس أدل على ذلك من ان «حزب الله» الذي حقق انتصارات تاريخية ضد اسرائيل ويشارك في حرب مصيرية ضد التكفيريين، ما حوّله الى رقم صعب في المعادلة الاقليمية.. هذا الحزب، ذاته، يشعر بالحرج أمام المطالب والتطلعات المتضاربة للعائلات الطامحة الى دخول المجالس البلدية ورئاستها، ما اقتضى منه بذل جهود مضنية من أجل تشكيل اللوائح، في مناطق نفوذه بالتعاون مع حركة «أمل»، من دون ان يعفيه ذلك من بعض الأضرار الجانبية.
وسعيا الى ترميم الفجوات التي احدثتها الانتخابات البلدية في جدار التفاهم بين «القوات» و«التيار»، من المقرر أن يُعقد بعد انجاز جميع مراحل هذا الاستحقاق، اجتماع مصارحة بين الجانبين، لمناقشة اخفاقات التجربة ونجاحاتها، وتحديد نقاط الضعف في جسم التحالف المستجد، في محاولة لمعالجتها، استعدادا للانتخابات النيابية المقبلة التي تشكل المحك الأهم للطرفين.
وتقام الجولتان الأخيرتان من الانتخابات البلدية والاختيارية وفق التالي: يوم الأحد ٢٢ أيار: محافظتا الجنوب والنبطية. الأحد ٢٩ أيار: محافظتا الشمال وعكار.
Leave a Reply