قادني الضجرُ خلالَ الأيّامِ الماضية، إلى ارتيادِ إحدى المكتبات وسطَ المدينة، قاصِدةً الهدوءَ وإراحةِ الأعصاب من مشاغلِ الحياةِ التي لا تنتهي، وقعَتْ يدي على كِتابٍ نطَّ من أحد الرفوف التي تتراصف عليها الكُتُب، وكان لمؤلِّفٍ عربيٍّ ورجل أعمال من الطرازِ الأوّل حسب ادِّعائه، مايهمّني في هذا الكِتاب هو المضمون الذي يعتمد المفارَقات المليئة بالمغامرات التي تُفصِح عن التباهي بفحولةِ المؤلِّف مع النساء اللواتي هنّ على شاكلتِه بالتأكيد.
لم أكن أتصوّر أنّه سيكون بهذه الدرجة من الوقاحة باعترافاتِهِ في سردِهِ، حيثُ كان هو الشخصيّة المِحورِيّة، حيث يستهلّ تلك الإعترافات بأنه سافرَ إلى القارة السوداء ونزلَ في فندق صغير يوجد بقربه مطعم، وبعد أن وضع حقائبَه في الغرفة المخصصة له، ذهبَ إلى ذلك المطعم لاحتساء «الشوربا» لأنّ الليل كان قارسَ البرد، ولكن أخانا الراوي لم يترك للبردِ فرصةَ الإنتصارِ عليه، بل اصطادَ أوّلَ «نادلةٍ» قابلَها، وبعد تناول الحساء والشاي الحار، اصطحبَها معهُ إلى الفندق وجعلَها لهُ مدفأةً طبيعيّة عوّضَتْهُ عن «الهيت» غير المتوفر في الغرفة.
وفي اليومِ التالي حملَ حقيبتَهُ وركبَ الباص قاصِداً المكانَ الذي سيبدأ منهُ نشاطَهُ التجاري، وكم كانَ سعيداً عندما كانت جارتُهُ في المقعد تتكلّم الفرنسيّة التي يتقنها هو أيضاً، وسرعان ما نسَجَ معها صداقةً وكأنّه يعرفُها منذ زمنٍ طويل، وبادلتْهُ هي نفس الشعور. كلّ هذا يحصل وهو لا ينكر بأنّ زوجتَهُ في الوطن قلقة عليه وتنتظر بعد وصولِهِ إلى مكان عملهِ الجديد أن يتّصلَ بها ليطمئنَها عليه، لكنّهُ حين وصلَ إلى مكان عملِهِ الجديد، وبدأ بعملِهِ التجاري عقب تأسيس شركتِهِ، كانت جارتُهُ «الحنونة» تتردّد عليه بشكلٍ دائم لتطمئنَّ على صحّتِهِ وصحّة جيبِهِ، لم يمضِ زمنٌ طويل حتّى أفلسَتْهُ وهربتْ إلى مكانٍ آخر تصطادُ بهِ فريسةً جديدة.
بعدها إضطرَّ زيرُ النساء هذا إلى الإلتجاء إلى أحد أقاربِهِ التجّار المقيمين في ألمانيا فعملَ معهُ لفترة، وعندما جمعَ بعضَ المال، أسّسَ تجارةً خاصّةً بهِ، فعادت الأمور تأخذ مجراها الطبيعي في العمل، وفي هذه الأثناء ضربَ الغرور صاحبَنا، وأخذ يهمل زوجتَهُ ولم يتّصل بها إلّا مرّةً في الشهر، وإذا اتّصلتْ هي بهِ يُجيبُها الموظّف نيابةً وبإيعازٍ منهُ، بأنّهُ «غير موجود». رغم اعترافِهِ بأنّ هذه الزوجة قد صبرتْ وحملتْ همَّ العائلة المكوَّنة من أبنائهما الخمسة لوحدِها، حيثُ كانَ هو بخيلاً معها ومع أبنائه، وفي الطرفِ الثاني كان يبذخ بالصرفِ على النساءِ الأخرَيات بدون حساب.
ومن حظِّهِ السيّء أنّ عشيقتَهُ الثانية قد حملَتْ منهُ وأخذتْ تسألُ عنهُ حتّى توصّلَتْ إلى عنوانِهِ الجديد، فأسرعَتْ الى الإلتحاقِ بهِ وأنجبتْ منه أكثرَ من طفل، وحين حاولَ التنصّلَ منها والإبتعادَ عنها، هدّدَتْهُ بواسطةِ صديقةٍ مشتَرَكة بأن توصلَ الخبر إلى زوجتِه، وفعلاً وصلَها الخبر، لكنّه بعد مفاتحتِهِ بالأمر كان بارعاً في الكذب والمراوغة فنفى كلّ ما نُسِّبَ إليه. رغم اعتِرافِهِ بأنّ زوجتَه لم تصدِّقه فأوقعَها في حيرةٍ من أمرِها… هل تنتقم منه فتعطيه الأبناء، وتذهب عنه إلى حال سبيلِها؟ أم تسكت وتربّي أبناءَها فالحِملُ ثقيلٌ عليها لوحدِها، فيقول بأنّها اختارت السكوت حيث أنّها تعلم بأنّهُ سيترك الأبناء عرضةً للإهمال والفرصة متاحة لضياعهم وتدمير مستقبلهم.
والغريب في الأمر أنّه يستطرد فيعترف بأنّها حاولتْ إصلاحَهُ لكنّهُ كان يتمادى في طغيانِهِ وظلمهِ لها، لدرجةِ أنّهُ أصبحَ يغيبُ عن البيت كثيراً، مدّعياً أنّهُ غارقٌ في العملِ حتّى أذنيه، توسّعتْ علاقاته مع النساء الأخريات، وفي اعتقادِهِ أنّه يثبتْ رجولتَهُ أمام نفسِه ويبرهن على ذلك بالإفصاحِ أمام أولادِه وهو يضرب على صدرِهِ قائلاً «مازلتُ شابّاً».
وعندما خفّتْ قدرتُهُ الجنسيّة حسب قولِهِ حاولَ الرجوعَ إلى عائلتهِ التي لم يعطِها الأمانَ يوماً ولا الإستقرار، لأنّ فاقدَ الشيءِ لايُعطيه، لكنّ زوجتَهُ رفضتْهُ أخيراً ولم يعترضها الأبناء لأنّهم عايشوا ما فعلهُ بها وبهم من ظلمٍ وإجحاف.
يقول في نهاية القصّة، «لقد تمتّعتُ بكلِّ شيء وجمعتُ الكثيرَ من المال وعاشرتُ الكثيرَ من النساء، لكنّني الآن عرفتُ وبعدَ فواتِ الأوان أنّ كلَّ ذلك لا يوازي لحظةً واحدةً أجلسها مع عائلتي نأكل سويّةً على طاولةٍ واحدة، أو نخرج للنزهةِ معاً ونعود في المساء ليضمَّنا بيتُنا ونشعر بالطمأنينة والإستقرار والدفء العائلي، لقد جنيتُ على نفسي وعلى عائلتي، ربّ هل تسامحني على ما اقترفتُهُ من ذنوبٍ تجاهها، خاصّةً وقد سمعتُ أحدَ رجالِ الدين مرةً يقول: لو استغفرَ الرجل سبعين مرّةٍ في النهار وهو ظالمٌ لزوجتِهِ لم يغفر اللهُ له ويحمل تبعةَ هذا الظلم معه إلى قبرِه»، إنّني أحيا في بؤسٍ وخيبة أملٍ، وإنّ جلّ ما تبقّى لي من أمل هو أن أرتاح من عذابِ الضمير الذي أعاني منه». هذا ما ختمَ بهِ قصّتَه.
إنّني أتساءل أين كان ضميرُه عندما كانَ يتجنّى على عائلتِه؟ فجلسَ الآن يبكي على الأطلال، أيعتقد مثل هؤلاء الرجال أنّ الزوجةَ قميصٌ يُلبسُ ويُخلَع عند الحاجة؟ أليست هي أيضاً لديها أحاسيس ومشاعر كما الرجل؟ تركتْ أهلَها وأسّستْ معه أسرةً، وفي النتيجة يتركها مع أولادِها ليلتجيء هو إلى ملذّاتِهِ الشخصيّة الحيوانيّة.
إنّ مباهجَ الحياة كثيرة، ولكن على الإنسان أن ينتقي منها ما هو مفيد له ولعائلته، ويقدّس الحياة الزوجيّة لأنّها هي ضمانة الشعور بالراحة والإستقرار، عسى أن يكون الرِجال قد أخذوا درساً من هذه القصة التي كان بطلُها واحداً منهم.
Leave a Reply