مريم شهاب
صدق ديغول، الرئيس الفرنسي الراحل، حين وصف الشيخوخة بأنها غرق بلا توقف. فمع تقدم العلوم الطبية الحديثة، طالت الأعمار وضاقت الخلق، وكل العلاجات والتحليلات لا تغيّر من طبيعة الإنسان حين يبلغ السن التي يتضايق فيها من أي شيء وكل شيء.
إذا فتح الباب تزعجه الرياح وإذا أغلقه يتذمّر وإذا انخفض صوت محدّثه لن يسمع ما يقول وإذا ارتفع يتذمّر.
يتذمّر من الحرارة الخانقة ويصاب بالزكام سريعاً من البرد، يتعب من الجمع ويرتعد من الوحدة.
هذا هو حال أهلنا وأحبابنا من كبار السن الذين أتعامل معهم يومياً من خلال عملي في البيوت العامة في بلدية ديربورن. دائماً يشكون ويتألمون، يتناولون الكثير من الأدوية ويخضعون لفحوصات طبيّة مختلفة ويصلهم معاش شهري من الحكومة الأميركية ومعظمهم أيضاً عنده تأمين صحي شامل ويعيشون في شقق بإيجار بسيط جداً، يشمل الكهرباء والماء وغيرها من الخدمات. والبعض يتلقى وجبة غذائية كل يوم. إذن أين المشكلة، وما الداعي للنق والشكوى والمناقرة مع بعضهم مثل الأطفال في الحضانة؟
المشكلة في الفراغ… في الوحدة، وفي الخوف من المستقبل. يغارون من بعضهم البعض، يكتئبون وينتحبون لسجنهم، سجن انتظار المدخول الشهري من الحكومة.
أحاول كثيراً التحدث إليهم: أليس من الأفضل العودة إلى بلدانكم، إلى قراكم وإلى الضيعة والشمس والهواء والحرية، إلى الجيران والأهل ومن تبقوا هناك؟ ما نفع المعاش إذا كانت استفادتكم منه ضئيلة جداً؟ وما نفع التأمين الصحي إذا كان سبباً مباشراً لتراجع الصحة؟
بعضهم يجيب بأنه يوفر معاشه لإرساله إلى أولاده خلف البحار. فتنحني أمام من يعاني البرد والصقيع والاكتئاب الذي لا حدود له من أجل غيره.
القوانين الفيدرالية لا تسمح لمن يتلقى هذه المساعدات أن يغادر أميركا أكثر من شهرين، وإلا سوف تُقطع المساعدات عنه. السفر ليس سهلاً لمن هو في هذا الحال. وعند عودتهم يشكون ويأملون لو تسمح لهم القوانين بالبقاء أكثر.
معظم هؤلاء المسنين يعانون من الاكتئاب الحاد، يلجأون للأدوية والعلاجات التي لا تنفع، بل تزيد غرقهم في الشيخوخة. أعرف أن بإمكانهم العيش في لبنان وأن لديهم من يهتم بهم هناك، والعديد منهم لديهم ما يكفي للعيش في القرى والبلدات الأم، حيث قضوا سنواتهم الأولى. لكن الخوف من الحرمان من المعاش الشهري والتأمين الصحي يحول دون سعادتهم واستمتاعهم بآخر أيامهم بهدوء وكرامة على أرضهم.
Leave a Reply