منذ انطلاقة الحرب على غزة في السابع والعشرين من كانون الثاني (ديسمبر)، تحول قطاع غزة إلى شاشة تلفزيونية تبث القتلى والجرحى. شاشة تبث على مدار الأربع والعشرين ساعة..ويدخلنا هذا البث، في مآزق عديدة، في العاطفة والوجدان والتفكير، ويولد فينا مشاعر عنيفة، الخيبة أقلها، أو ربما العار. البلاغة – كنزنا ومحصولنا الحضاري – صارت مجرد تهريج وإحدى اشتقاقات العجز. التساؤل.. صار عملاً فائضاً، وربما مرفوضاً، أو على أقل تقدير غير مرحب به..اليوم.. من يحمي ذلك الشعار القديم (لا صوت يعلو فوق صوت البندقية) ليست الأنظمة الديكتاتورية، بل الجماهير من يفعل ذلك. لقد تم الاختلاط أخيراً بين الشعوب والحكومات، فالحكومات نفسها تستعير اليوم لغة الشارع في الشجب والتنديد والغضب.. وحتى في هجاء النظام العربي الرسمي (!!..)، لكن بوجود ذلك الفارق.. وهو الأنظمة تفعل ذلك لدفع التهمة عن نفسها.والبث مستمر. ومشاهد القتل والقصف والتدمير هي وحدها المشاهد الحقيقية. مشاهد تخرج لمرة واحدة ونهائية ونستقبلها مع كل ركاكة الإخراج وضعف المخيلة، وأما مشاهد مؤتمراتنا ومظاهراتنا وحراكنا.. فهي ملفقة، ملفقة..رائعون نحن العرب، ومختلفون..فالمظاهرات في ثقافات كل العالم وأدبياته، هي تعبير عن رأي عام يضغط على الحكومات لتنهج نهجاً معيناً، ومظاهراتنا تستعمل لتفريغ الشحنات وامتصاص الغضب. مظاهرات بإشراف الحكومات لرفع العتب..وبورصة الدم الفلسطيني.. مفتوحة للمستثمرين، والمزاودين، والمهددين، والحالمين، وحتى لصغار الكسبة. «لا أحد كان يريد أن يقول شيئاً/ الكل كان يخاف التورط/ بين الشخص والآخر كبرت المسافات/ وصار التنافر بين الاصطلاحات من الحدة/ بحيث كفّ الجميع عن الكلام/ أو أخذوا جميعاً يتكلمون دفعة واحدة» قال بابلو نيرودا..والحال أن أحداً منا لم يكف عن الكلام، ولا عن المزايدة. ولعل فضيلة الحرب الوحيدة أننا نعيشها وأننا نختبر الهزائم بأنفسنا. على الأقل صار بإمكاننا أن نقرأ التاريخ، وأن نفهم الهزائم التي حصلت بطريقة أكثر جدوى، إنطلاقاً من تجاربنا ومعايشتنا للحروب
Leave a Reply