منذ عدة ايام خيمت علينا الذكرى السنويه لانطلاق المجزرة الإسرائيلية بحق سكان قطاع غزة المرابطين، نحن الفلسطينين وحدنا نتذكر تواريخ المجازر، والعالم كله ينسى، وينشغل بالاسواق المالية المترنحة، وانفلونزا الخنازير ومطاعيمه، وأزمة دبي وديونها التي قصمت ناطحات السحاب فيها وأصبحت شبه خاوية على عروشها تنعق الغربان فيها ومعركة مصر والجزائر الكروية، وأوباما وجائزة نوبل لنية السلام والذي ينطبق عليه المثل القائل: اسمع كلامك (في القاهره والسويد) يعجبني، أشوف اعمالك (في العراق وباكستان وفلسطين و…) أتعجب!
المجازر الاسرائيلية بحق الفلسطينين لا تعد ولا تحصى. لم تبدأ بدير ياسين والدوايمة، مروراً بعمال كفر قاسم العائدين الى قريتهم عند الغروب ولم يصلوا أبداً. ومجزرتي رفح وخان يونس اللتين غيبهما التاريخ.
في صبرا وشاتيلا تكومت الجثث في الازقة والبيوت، وسالت الدماء الزكية في الشوراع، وحُفرت القبور الجماعية. انبرى القضاء الاسرائيلي للتحقيق وتوصل الى أن شارون كان يعرف مايجري في الداخل ويحاصر المخيم حتى ينهي القتله مهمتهم. ولكن اللجنة لم تعاقب شارون او تأمر بسجنه أو تجريده من رتبته العسكرية أو أدواره السياسية، بل تركته طليقاً ليصير رئيساً للوزراء في دولة العصابات لكون له اليد الطولى في مجازر أخرى قادمة. هي إسرائيل التي كلما سئل مسؤول أميركي أو أوروبي عن سر دعمهم لإسرائيل، لا يخجلون بأن يرددوا على مسامعنا اكذوبة ان اسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة. هذه هي دولة القانون، فالقاضي فيها مجرم وهيئة المحلفين والشهود مجرمين أيضاً، فمن أين ستأتي العدالة؟ ثم كانت مجزرة جنين، ولنكن دقيقين ونسمها ملحمة جنين حيث صمد المخيم الذي لا تزيد مساحته عن كيلومتر مربع واحد امام جيش بكلمل عدته براً و جواً، نعم دمر المخيم بالكامل ولكنه لم يستسلم ولم يرفع اي مقاتل راية بيضاء واحدة. حتى بعد ان نفذت ذخيرة المقاتل الأخير أبو جندل أعدمه الجبناء بدم بارد. مسلسل الاجتياح جسد هذه الملحمة ولم تبثه الا محطتي MBC و LBC، وهي نفسها المحطات التي تبث مسابقات الغناء والرقص الشرقي والتعارف المفتوح (جداً) للحب والزواج التي تمولها جهات معروفة شعارها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما المحطات المصرية والـ art، فهي مشغولة بما تعتقد انه يهم الأمة! وليس شباب وشابات الأمة يشاهدون “الاجتياح” بدل المسلسلات التركية الغريبة عن قيمنا وتقاليدنا.
ان كانت جنين سطرت ملحمة، فقد سطرت غزة الملحمة الكبرى صمود اسطوري امام آلة الحرب الهمجية الاسرائيلية. العالم كلة تضامن ليس فقط احتجاجاً على الجريمة والفسفور الابيض، بل ايضاً اعجاباً بالغزيين الذين لم يعرفو الخنوع ولا الاستسلام لأنهم محوها من قاموسهم الى الأبد.
“تقرير غولدستون” جرّم اسرائيل وطلب بمحاكمة قادتها السياسيين والعسكريين. ولكن دولة المجرمين لا تأبه بـ”غولدستون” ولا بالأمم المتحدة ولا مجلس الأمن ولا محكمة الجنايات الدولية مادام السيد القابع في البيت الأبيض جاهز دائماً على مدار الساعة لتبرير جرائمها.
بعد ملحمة غزة، رفرف العلم الفلسطيني في كل عواصم العالم كرمز للحرية والنضال، وصارت الكوفية الفلسطينية رمزاً للشموخ والتحدي والصمود. عشرات القوافل والسفن كسرت الحصار، ودخلت غزة حاملة الماء والغذاء والدواء، وربما لتكحيل عيونها برؤية هذا الشعب الاسطورة الذي لا يملك أسلحة فتاكة ولكن ارداتة وايمانه لا يتزعزعان مهما بلغت التضحيات من أجل الحرية والأستقلال والعودة.
قبل أيام أصدر القضاء البريطاني قراره بالقاء القبض عليه ومحاكمتة ليفنى بجرائم حرب وجرائم ضد الانسانية. وبراون يعد الاسرائلييين بتعديل قوانين القضاء البريطاني حتى لا يتكرر مثل هذا ضد قادة اسرائيلين آخرين، السيد براون هذا يريد قضاءاً باستثناءات محاكمة كل مجرمي الحرب الا اذا كانوا اسرائيليين، فهل سيصبح القضاء البريطاني لإسرائيل و”مستر براون”، ام ستشهد قرارات اخرى تطال باراك وأولمرت وبقية العصابة؟
ولكن دعونا نكون واقعيين. غزة ما زالت محاصرة، الماء والغذاء والدواء شحيح، والوقود نادر، ومواد البناد ممنوعة، والناس ما زالت تعيش في خيام على انقاض ركام منازلها، وشتاء بارد آخر يوشك أن ينتقض عليهم بأمطاره ورياحه..
أكذب عليكم ان قلت انني تفاجأت بالقرار المصري ببناء جدار فولاذي بطول عشر كيلو مترات وسمك عشر امتار حول غزه. النظام المصري هذا لا يليق بشعب مصر العظيم الذي وقف -ومازال- مع اهل غزه الصابرين. اسرائيل تخطط لابادة غزه بالحصار والتجويع والنظام المصري يساعد في الجريمة، فماذا عساكم يا شرفاء مصر فاعلين؟
مساعد وزير الخارجية الامريكية لا يتدخل في شؤون مصر الداخلية ويعتبر القرار شأناً داخلياً في دولة ديمقراطية!! وذات سيادة !! يقصد مصر.
تذكرني غزه بآل ياسر، سمية، وياسر، وعمار صابرون رغم العذاب والتنكيل والمعاناة والألم، صابرون لأن موعدهم الجنة.
تذكرني غزه ايضاً بحصار بني عبد المطلب، وعام الحزن، حزن غزه قارب الثلاث سنوات، وكذلك حصارها، وها هو الحصار يزداد ضراوة بقرب تشييد الجدار المصري، غزة لا تلين ولا تنكسر، تجوع وتصمد ولا تجد الدواء ولكنها تبقى واقفه بشموخ. غزه كما قال الشاعر الراحل محمود درويش “مدينة البؤس والبأس”، غزة التي كتبت لها وعنها كما رسمتْ هي صورتها: قلعة محاصرة بالبحر والنخيل والغزاة والجميز، قلعة لا تسقط، غزة هي العزة، المعتزة باسمها، المشمئزة، بلا انقطاع، من صمت العالم على حصارها الطويل.. أما آن لهذا الصمت الأخرس ان ينطق، يصرخ، ينفجر؟ أما آن للضمائر الميتة أن تنبعث فيها الروح؟
أما آن لشعاع الحرية في غزة أن ينتشر فيوقظ العواصم الأسيرة النائمة من سباتها الذي طال (جداً)؟
حجّوا الى غزة، قبلة الحرية، وكعبة الأحرار لعلكم تتطهرون من العبودية والخنوع والصمت..
Leave a Reply