محمد العزير
لو قُدر لصفات الألفة والمودة والنبالة والشهامة والطيبة والكرم والصداقة والوفاء والتواضع أن تجتمع في شخص واحد لتجسدت في غسان الحبّال، الذي فارقنا في موسم موت، وكأنه يقول إنه ينتمي إلى الناس في كل حالاتهم. من عرف «المعلم» غسان شخصياً يعرف عما أتحدث، يعرف أي فئة نادرة من البشر كان «أبو أنيس» وأية خسارة إنسانية لا تعوض لكل من عاشره وعرفه ورافقه وزامله وتتلمذ على يديه.
لا يليق بعرّابي ومعلمي وأستاذي، مقالٌ من فصيلة «… واذكروا محاسن موتاكم»، ولن أحول كلمتي الأخيرة له رثاء تقليدياً مقدوراً عليه في المآتم والمناسبات. غسان أكبر من هذا، وفي حياته الزاخرة بالعطاء والإبداع ما نحتفل به أكثر من حزننا الصادق على لحظة وفاته. أتحدث عن غسان حبّال الإعلامي، الصحفي، المثقف والمحترف الذي سيبقى حياً، مادام في عروق كل من تعلم منه، نبض دافق.
مطلع السبعينيات (1972) كان غسّان حبال، ابن المربي المدرس الأستاذ أنيس حبّال، في عداد أول دفعة من خريجي كلية الإعلام، الحديثة العهد في الجامعة اللبنانية الوطنية التي كانت تشق دروبها الأكاديمية في أول مسيرتها. تعرف غسّان هناك إلى لبنان، ليس كجغرافيا وتاريخ، بل كبشر. وهناك أعلن انحيازه الواضح إلى الوطن. الجامعة اللبنانية الملاذ الأكاديمي الوحيد لأبناء الأرياف والموظفين العموميين والشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة (قبل الانتشار الفطري «الموجه» للجامعات الخاصة في السنوات الثلاثين الماضية). اقتنع أن الوطن لن يقوم بلا مؤسسات وطنية، وأن الجامعة اللبنانية هي المدماك الأول لهذا الصرح.
واجه غسان الحقيقة اللبنانية الراسخة دون مفاجأة عندما لم يجد فرصة عمل في لبنان الذي كانت صحافته يومها في أوج مجدها وعز تمويلها العربي المخرِّب. بدأ تجربته المهنية في الإمارات العربية، وتحديداً في دبي، التي أحرص على تسميتها ارحب مدينة في الدنيا. عمل على تأسيس وتحرير مجلة تلفزيون دبي، في أول إرهاصات الفورة المالية. بدل أن يسعى وراء الثراء، سعى إلى تطبيق قناعاته الإنسانية والوطنية بعدما تعرف إلى شخصية نادرة تجاهد للحفاظ على البوصلة العربية؛ فلسطين. كان غانم غباش من كبار الموظفين الحكوميين في الإمارات وابن العائلة المرموقة، الذي لم يتخل عن انتمائه العربي، ولا عن عاداته اليومية الجميلة في الملبس والمأكل والضيافة، رغم أنه لم يعُزهُ من الحداثة شيئاً وهو خريج أعرق الجامعات الغربية. أصبح غسان من أركان مجلة «الأزمنة العربية» التي كان لي شرف اللقاء المتكرر بمؤسسها الراحل المثقف الموسوعي غانم غباش، والتي كانت علامتها المميزة إعلان تجاري غير مدفوع على صفحاتها يقول لا تشترِ السلع الأوروبية والأميركية… اشترِ سلع دول العالم الثالث… المحتوى ذاته والفارق هو التغليف.
عندما انطلقت صحيفة «السفير» في بيروت بشعارها «صوت الذين لا صوت لهم» ربيع العام 1974، حنّ غسان إلى بيروت، ورأى في «السفير» ما يريده من هوية عربية ووطنية لبنانية… والأهم فلسطين. لقاء واحد مع الناشر الأستاذ طلال سلمان، وأصبح غسان الحبال سكرتير تحرير «السفير»، وهو المنصب الذي تولاه لقرابة عقدين من الزمن تغيرت فيهما الرتب والألقاب، لكن غسان لم يتغير. إلا أن تقلبات السياسة بعد الحرب السورية على المخيمات الفلسطينية في لبنان وبعد اتفاق الطائف وإعادة التموضع بعد دخول إيران إلى المعادلة اللبنانية، جعلت غسان تلقائياً خارج «السفير» الذي أصبح أحد مدراء تحريرها الأمين القطري السابق لحزب «البعث» السوري في لبنان عبدالله الأمين. كان غسان من أوائل من اتصلت بهم الماكينة السياسية الناشئة لرفيق الحريري في ذلك الوقت، كونه ابن صيدا ومن المعروفين جداً في بيت المناضل العربي الكبير معروف سعد. لم يجد غسان في مقولات الحريري ومشروعه خروجاً عن الالتزام بالقضية الوطنية لبنانياً والقضية الفلسطينية عربياً، ولا في مشروع التحديث الذي بدأه الحريري بإنفاق أمواله على منح تعليمية للطلاب اللبنانيين دون تمييز على أساس المنطقة أو الطائفة أو المذهب.
كان من الرواد في تأسيس تلفزيون «المستقبل». وفي لحظة طارئة تم الطلب إليه الإسهام في تصويب مسيرة صحيفة «المستقبل». كان على مقربة وثيقة من موقع يتمناه أي سياسي أو إعلامي أو مسؤول في لبنان. لم يأبه، بل التزم بشغله وقام بعمله على أكمل وجه. لم يطلب منحة أو مساعدة أو حتى مقابلة مع أحد إلى درجة أوغرت صدور العاملين معه (الذين وإن وصلوا إلى مراتب عليا آنف من ذكرهم احتراماً لذكراه) فصاروا يكيدون له دون جدوى… وعندما أيقن بأنه أصبح في خضم مناكفات وتنفيعات ودسائس لا شأن له بها، استقال… وعاد إلى أرحب مدينة في الدنيا… إلى دبي، حيث واصل إنتاجه الصحفي والإعلامي في الإمارات بين دبي وأبو ظبي والفجيرة إلى أن أعاده وضعه الصحي إلى لبنان قبل خمس سنوات.
المميز في كل مراحل عمل الأستاذ غسان وفي كل مواقعه أنه لم ينس، ولم يتنكر لبداياته الفكرية والمبدئية. كان غسّان يساعد الصحافيين والصحافيات العاملين معه، وكأنه وكيلهم القانوني وليس رئيسهم في العمل. أذكر ذات مرة عندما كنت متدرجاً في «السفير» وكان مدير تحريرنا متجبراً، وألزمني بمهمة ليست لي وإنما لأحد الموظفين المحسوبين على الأحزاب «القوية»، رفضت، وافق غسّان معي وقال لي اتبعني… نزلنا إلى سينما «سارولا» التي تقع في آخر شارع الجريدة في منطقة الحمرا، وحضرنا فيلم «صائد الغزلان». لم تكن يومها هواتف خليوية وكان على مدير التحرير الشرس الذي تحول إلى «لا شيء» لاحقاً أن يقوم بعمل محرر مبتدئ ليتعلم كيف يعامل الناس.
سمعت من زميلات وزملاء ما لا يتسع له كتابٌ عن مواقف غسان المهنية معهم، وأن الصحافة تغوي لكنها وظيفة، وأن الفارق بين الحقيقة والشهرة (والتشهير) بيّن، وأن جواب المسؤول على اتصالك لأنك صحفي يختلف عن جوابه لك وأنت مواطن أو «مفتاح» انتخابي أو «قبضاي»…
أعرف من تجربتي معه في «صدى الوطن» أنه لم يتردد في مراسلتنا أسبوعياً وتزويدنا بأخبار لبنان في أدق المراحل دون شروط أو متطلبات. نادرون أمثال معلمي وصديقي وعرّابي غسان حبال الذي عاش كما أراد، دون تكلّف… ومات كما أراد دون منة. عندما أظهر الفحص الأخير لغسان الشهر الماضي، انه يعاني من فشل كلوي في كليته الباقية بعدما تسبب السرطان باستئصال الأخرى، وبعد معاناته لسنوات من العلاج الكيمياوي الذي أقعده، قال لطبيبه وللمستشفى: أرجو أن تفهموا ما أريده. لا أريد غسل كليتي. كل ما أريده هو أن أعيش أيامي الأخيرة بلا أدوية ولا عقاقير ذات آثار جانبية. أرجو فقط أن تبقوني بلا أوجاع في أيامي الأخيرة. هذه لعمري قمة الشجاعة لمن لم يبلغ السبعين من عمره.
سيبقى اسمك حياً يا أبا أنيس وستبقى حياً في الوجدان.
Leave a Reply