استجابة لقوانين العرض والطلب، يشكل السيناريو التلفزيوني (والسينمائي) المكتمل الشروط الفنية سلعة عزيزة وثمينة بسبب ازدهار السوق الدرامية وتنافس المحطات الفضائية على إنتاج المسلسلات الأكثر جذباً للجمهور. وبسبب ذلك.. لم يترك الكتّاب والمخرجون حكاية أو قصة إلا واستثمروها، بما في ذلك حوادث التاريخ والحكايات الشعبية.. وصولاً إيا الفانتازيا التاريخية التي بدأت مع المخرج السوري نجدت أنزور، فضلاً عن فنتازيات اجتماعية تجري أحداثها في المدن والقرى والبوادي.
ليس سراً أن هناك بعض المناطق الشائكة والملغومة في تراثنا التاريخي والحكائي، المدوّن منه والشفهي. مناطق يشكل مجرد الاقتراب منها مجازفة أو انتحارياً فنياً وإنتاجياً. وفي هذا السياق يمكن الاستشهاد بفيلم زناجي العليس للمخرج الراحل يوسف شاهين.
أراد يوسف شاهين من فيلمه ذاك أن يقدم رؤيا متكاملة عن الحرب الأهلية اللبنانية على خلفية قصة رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي. وقد فشل يوسف شاهين بالطبع.. بسبب تدخل الكثير من الجهات والأطراف والقيادات واعتراضها على مقولات الفيلم الذي خرج في النهاية فيلماً معقماً ونظيفاً ويرضي الجميع، امتثالاً لضغوط وتسويات ووجهات نظر اقترحت (بعين حمراء) عدم نشر الغسيل القذر على السطح..
وهكذا.. يبقى التناول الفني، التلفزيوني أو السينمائي، لسير شخصيات من تاريخنا المعاصر أمراً شائكاً ومعقداً، لدرجة تجبر الفنانين على تقديم أعمال فنية ناصعة، لنجد أنفسنا، نحن المشاهدين، أمام شخصيات من طراز نادر واستثنائي لا يمكن تقليده، لسبب بسيط.. هو أنها شخصيات مضادة للشروط الإنسانية.
الأمثلة كثيرة. ففي المسلسل الذي تناول سيرة الفنان الراحل عبدالحليم حافظ، نحن أمام بطل من النوع الرومانسي إلى أقصى درجة. فالشاب الفقير والموهوب، الوجداني والعاطفي، الذي وصل إلى قمة المجد الفني من خلال موهبته ومثابرته وخياراته الفنية الصائبة، لم ينزلق طوال ثلاثين حلقة، ومئات المشاهد.. ليتناول قنينة بيرة!..
وفي مسلسل أم كلثوم نحن أمام نموذج نسائي استثنائي وفريد في تاريخنا المعاصر، وليأتِ الأجانب والمتربصون الذين يتهموننا باضطهاد المرأة وحبسها في الحرملك، ويروا بأم أعينهم قصة فتاة جاءت من أقاصي الصعيد وأصبحت نجماُ (أو كوكباً) في الشرق كله. فتاة تتمتع بالذكاء والموهبة والرصانة وقوة الشخصية، فضلاً عن الحكمة.. وكأنها قادمة تواً من جبال التيبت، لتصبح «الحكمة» نفسها مصرية بعد أن كانت لعدة قرون هندية. ومن البدهي، أننا لن نرَ كلب السيدة أم كلثوم في أي من مشاهد المسلسل. الكلب الذي هجاه الشاعر أحمد فؤاد نجم في قصيدة بعنوان زكلب الستز ودخل السجن بسببه
في الموسم الرمضاني الأخير، تابع المشاهدون مسلسل «اسمهان» الذي خرج إلى الوجود بعد مفاوضات عسيرة مع ورثة الفنانة الكبيرة، لأسباب تتعلق بحساسيات وطنية وطائفية. وهذه الأسباب ليست خافية على أحد على أي حال. وتبقى النقطة الأكثر سخونة في سيرة اسمهان علاقتها بالاستخبارات البريطانية والألمانية. ومرة أخرى، وعملاً بمقولة عدم نشر الغسيل القذر على السطح نحن أمام عرض آخر للتاريخ. عرض ستخرج بموجبه الفنانة الراحلة صاحبة دور وطني، مضافاً إليها لمسة اعتذارية تقدم نضالات الطائفة التي تنتمي إليها اسمهان، بمثابة جائزة إضافية.
أما سير الشخصيات السياسية فهي أشد إرباكاً وإحراجاً، لأسباب يمكن توقعها. ويبقى السؤال كيف نصدق كل ما نشاهده في مسلسل جمال عبدالناصر عندما نعلم أن ابنته رفعت قضية على أحد المخرجين، في أحد الأفلام التي تناولت سيرة الرئيس عبدالناصر، لمجرد ظهوره ببيجامة النوم في أحد المشاهد.
من المفارقات، أن عبارة من قبيل «قصة هذا الفيلم مبنية على أحداث حقيقة» هي عبارة شائعة في بعض الثقافات، الأميركية مثالاً. أما في ثقافتنا، فكثيراً ما نقرأ عبارة من طراز: «إن جميع شخصيات هذا العمل وأحداثه هي من محض الخيال، وأي تشابه بين شخصيات العمل وشخصيات في الواقع هو مجرد تشابه عارض وغير مقصود». ومع ذلك.. يتابع المشاهد العربي مثل هذه الأعمال وهو على قناعة أكيدة أنها تتصل بالواقع لدرجة التطابق.
مَن مِن المشاهدين العرب يصدق أن مسلسل «اسمهان» أكثر مصداقية من مسلسل «ظل المحارب» أو مسلسل «جمال عبدالناصر»، مع فهمنا أن العمل الفني ليس عملاً تأريخياً أو توثيقياُ بالضرورة.
الأمثلة كثيرة، كثيرة. والغسيل على السطح ناصع البياض.
مع ذلك، كتب الصديق الشاعر رائد وحش في إحدى قصائده:
على سطح البيت
كراية القراصنة ثوب الأم على حبل الغسيل!
Leave a Reply