ليس سراً أن الولايات المتحدة كانت تمارس على الدوام ضغوطاً على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لكي تضمن عدم معارضتها للقرارات التي تدعمها، لكن التهديدات الأخيرة التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بقطع المساعدات عن الدول التي ستصوّت -في الجمعية العامة للأمم المتحدة- ضد قرار البيت الأبيض اعتبار القدس عاصمة إسرائيل هي بلا أدنى شك «بلطجة علنية» غير مسبوقة بوقاحتها في تاريخ العلاقات الدولية.
لكن العقيدة المالية الابتزازية لصاحب كتاب «كن طموحاً واركل مؤخرات (المنافسين) في الأعمال والحياة» باءت بالفشل هذه المرة، ولم تأت أُكلها إلا مع بضعة دول هامشية، مثل: جزر مارشال وميكرونيزيا وتوغو وبالو وهندوراس وغواتيمالا وناورو، وهي دول عارضت -إضافة إلى أميركا وإسرائيل- مشروع القرار الرافض لإعلان ترامب بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، والذي أدانته الجمعية العامة للأمم المتحدة، بأغلبية ساحقة، الخميس الماضي.
وفيما لا يختلف اثنان على قوة الولايات المتحدة وقيادتها للعالم، إلا أن نتيجة التصويت في نيويورك جاءت لتؤكد مشروعية الحقوق الفلسطينية وأصالتها، برغم كل التخاذل الدولي-العربي-الإسلامي الذي استمر على مر العقود المتتالية متخذاً أشكالاً متعددة صبّت في صالح الكيان العبري وحماية مصالحه.
غطرسة «تاجر العقارات» بلغت حداً لا يمكن هضمه أو استيعابه، على المستويين الداخلي والخارجي، إذ أنه عامل تصويت الدول في الأمم المتحدة كـ«أمر شخصي» سيحاسب عليه، بحسب الرسالة التي أوصلتها المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي.
الرئيس الذي لا يفوت فرصة إلا ويستغلها لتظهير صورته كـ«سيد قوي في البيت الأبيض»، ضمّن الرسالة، رسالة أخرى تفيد بأنه أقوى من جميع الرؤساء الأميركيين السابقين الذين قاموا بتأجيل قرار الكونغرس (١٩٩٥) بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، ولكن النتيجة جاءت عكسية فانقلب تهور ترامب موقفاً أميركياً ضعيفاً ودنيئاً على الساحة الدولية، بتهديدات واشنطن بوقف المساعدات للدول التي تعارض قرارها.
ومن المعروف أن الدول العظمى في العالم تمتلك ما يعرف في الأوساط الدبلوماسية بـ«القوة الناعمة»، فضلاً عن استثمارها لسياسة العصا والجرزة في بعض الأحيان، لتحقيق وحماية مصالحها الداخلية والخارجية. وقد كانت المعونات الخارجية التي تقدمها الولايات المتحدة لـ142 دولة بمثابة الجزرة، لكن ترامب أراد استخدام تلك المساعدات المالية كعصا يلوّح بها في وجه الجميع، واضعاً كرامات تلك الدول وسياداتها الوطنية على المحك!
إجمالي المعونات الأميركية السنوية يبلغ 35 مليار دولار، يذهب ربعها تقريباً إلى خمس دول فقط، في مقدمتها إسرائيل التي تحصل بمفردها على 3.1 مليار دولار سنوياً، فيما يحل العراق مثلاً -الذي أنزل به الاحتلال الأميركي كارثة غير مسبوقة- في المرتبة 14.
ربما تناسى «تاجر العقارات» القاعدة التجارية التي تؤكدها الأعراف والقوانين التي تلزم الشركات بإعادة الاستثمار في مجتمعاتها (كومينيتي ريإنفستمنت آكت)، فالولايات المتحدة تجني أرباحاً طائلة من العالم العربي، والشرق الأوسط منه على وجه الخصوص، ويوم الخميس الماضي، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن شركة «بوينغ» حصلت على عقد بقيمة 480 مليون دولار لخدمة وإصلاح طائرات «سلاح الجو الملكي السعودي». وفي اليوم ذاته، عقدت «بوينغ» صفقة مع شركة «فلاي دبي» لتزويدها بـ175 طائرة صغيرة الحجم بقيمة 27 مليار دولار.
وبالتالي فإن إعانة بعض الدول العربية والإسلامية ليست «منّة» غير مستحقة، ولا يصح استغلالها لابتزاز حكومات وشعوب العالم، سيما وأن إعانات واشنطن للدولة العبرية تمثل 9 بالمئة من مجمل المساعدات الأميركية الخارجية، تتدفق دون أي اعتبار لفقراء ومهمشي المدن الأميركية التي عانت الويلات خلال الأزمة الاقتصادية الأخيرة.
إن تأييد 128 دولة لحقوق الشعب الفلسطيني في القدس المحتلة، وعدم انصياع بعض الدول التي تتلقى مساعدات أميركية لتهديدات ترامب، يكشفان عن حجم العزلة التي باتت تعيشها واشنطن، وربما «أفول» القطب الواحد مع فقدان الولايات المتحدة لسطوتها وتأثيرها في الشرق الأوسط وتحديداً دورها كراع لعملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، في وقت اعتقد فيه الكثيرون -وعلى رأسهم ترامب نفسه- أنها الفرصة المناسبة لإرغام الفلسطينيين على القبول بالأمر الواقع وبـ«صفقة العصر»، لاسيما في هذه الأوقات الحرجة التي يعيش فيها العالم العربي واحدة من أسوأ مراحله التاريخية، اقتتالاً وتخاذلاً وانقساماً دموياً، أبعد القضية المركزية عن قائمة الأولويات بالنسبة لمعظم الحكومات العربية.
Leave a Reply