صبحي غندور
تميّز النصف الثاني من القرن العشرين، بطروحات فكرية وبحركات سياسية ساهم بعضها أحياناً بتعزيز المفاهيم الخاطئة عن ثلاثية (الوطنية والعروبة والدين)، أو ربّما كانت مشكلتها فـي فكرها الأحادي الجانب الذي لم يجد أيَّ متّسعٍ للهويّات الأخرى التي تقوم عليها الأمَّة العربية. فهويّة الأمّة العربية هي مزيج مركّب من هويّات (قانونية وطنية) و(ثقافـية عربية) و(حضارية دينية). وهذا واقع حال ملزِم لكل أبناء البلدان العربية حتى لو رفضوا فكرياً الانتماء لكلّ هذه الهويّات أو بعضها.
الآن نجد على امتداد الأرض العربية محاولات مختلفة الأوجه، ومتعدّدة المصادر والأساليب، لتشويه معنى الهويّة العربية ولجعلها حالة متناقضة مع التنوع الإثني والديني الذي تقوم عليه الحياة العربية على أرضها منذ قرونٍ عديدة.
وأصبح الحديث عن مشكلة «الأقليّات» مرتبطاً بالفهم الخاطئ للهويّتين الوطنية والعربية، حيث المحصّلة هي القناعة بأنّ حلاً لهذه المشكلة يقتضي «حلولاً» انفصالية كالتي حدثت فـي جنوب السودان وما يخطّط له فـي شمال العراق، وكالتي يتمّ الآن الحديث عنها لمستقبل عدّة بلدانٍ عربية. وهذا الأمر هو أشبه بمن يعاني من مرضٍ فـي الرأس فتُجرَى له عملية جراحية فـي المعدة!!. إذ أن أساس مشكلة غياب «حقوق بعض المواطنين» هو غياب الفهم الصحيح والممارسة السليمة لمفهوم «المواطنة»، وليست قضية «الهويّة».
وعجباً، كيف تُمارس الإدارات الأميركية نهجاً متناقضاً فـي المنطقة العربية مع ما هي عليه من تاريخ وثقافة، وكيف تُشجّع على تقسيم الشعوب والأوطان وعلى إضعاف الهويّة العربية عموماً؟ ففـي الولايات المتحدة نجد اعتزازاً كبيراً لدى عموم الأميركيين بهويتهم الوطنية الأميركية (وهي هُويّة حديثة تاريخياً)، رغم التباين الحاصل فـي المجتمع الأميركي بين فئاته المتعدّدة القائمة على أصول عرقية وإثنية ودينية وثقافـية مختلفة. فمشكلة الأقليات الإثنية والعرقية والدينية موجودة فـي أميركا لكنّها تُعالج بأطر دستورية وبتطويرٍ للدستور الأميركي، كما حدث أكثر من مرّة فـي مسائل تخصّ مشاكل الأقليّات، ولم يكن «الحل الأميركي» لمشاكل أميركا بالتخلّي عن الهويّة الأميركية المشتركة ولا أيضاً بقبول النزعات الانفصالية أو بتفتيت «الولايات المتحدة».
كما أنه من المستغرب أن تكون بعض الأصوات العربية المقيمة فـي أميركا والغرب، فـي إطار المفكرين أو الناشطين حالياً مع معارضات عربية، تُساهم فـي هذه الحملة المقصودة ضدّ الهويّة العربية، أو تؤيّد الآن حركات الانفصال والتقسيم لأوطان عربية، وهي تُدرك ما أشرت إليه عن خلاصات التجربة الدستورية الأميركية، إضافةً إلى تجارب دستورية أوروبية مشابهة تسعى للاتّحاد والتكامل بين «أمم أوروربية» قائمة على ثقافات ولغات وأديان وأصول عرقية مختلفة.
أيضاً، نجد فـي داخل بعض الأوطان العربية أنّ ضعف الولاء الوطني لدى بعض الناس يجعلهم يبحثون عن أطر فئوية (قبلية وعشائرية وطائفـية) بديلة عن مفهوم المواطنة الواحدة المشتركة، وربّما يمارسون استخدام العنف ضدّ «الآخر» فـي الوطن نفسه من أجل تحصيل «الحقوق»، كما نجد من يراهنون على أنّ إضعاف الهويّة الثقافـية العربية أو الانتماء للعروبة بشكلٍ عام سيؤدّي إلى تعزيز الولاء الوطني، أو نجد من يريدون إضعاف التيّارات السياسية الدينية من خلال الابتعاد عن الدين نفسه.
إنّ الفهم الصحيح والممارسة السليمة لكلٍّ من «ثلاثيات الهويّة» فـي المنطقة العربية (الوطنية والعروبة والدين) هو الحلُّ الغائب الآن فـي أرجاء الأمَّة العربية. وهذا «الحل» يتطلّب أولاً نبذاً لأسلوب العنف بين أبناء المجتمع الواحد مهما كانت الظروف والأسباب، وما يستدعيه ذلك من توفّر أجواء سليمة للحوار الوطني الداخلي، وللتنسيق والتضامن المنشود مستقبلاً بين الدول العربية.
إنّ الدين يدعو إلى التوحّد وإلى نبذ الفرقة. إنّ العروبة تعني التكامل ورفض الانقسام. إنّ الوطنية هي تجسيد لمعنى المواطنة والوحدة الوطنية. فأين العرب من ذلك كلّه؟.
إنّ ضعف الولاء الوطني يُصحَّح دستورياً وعملياً من خلال المساواة بين المواطنين فـي الحقوق السياسية والاجتماعيّة، وبالمساواة أمام القانون فـي المجتمع الواحد، وبوجود دستور يحترم الخصوصيات المكوّنة للمجتمع.
كذلك هو الأمر بالنسبة للهويّة العربية، حيث من الضروري التمييز بينها وبين ممارسات سياسية سيّئة جرت من قِبَل حكومات أو منظمات أساءت للعروبة أولاً، وإن كانت تحمل شعاراتها. فالعروبة هي هويّة ثقافـية جامعة لا ترتبط بنظام أو حزب أو مضمون فكري محدّد، وهي تستوجب تنسيقاً وتضامناً وتكاملاً بين العرب يوحّد طاقاتهم ويصون أوطانهم ومجتمعاتهم.
ما حدث ويحدث فـي العقود الأربعة الماضية (منذ منتصف عقد السبعينات) يؤكّد الهدف الأجنبي بنزع الهويَّة العربية، عبر استبدالها بهويّة «شرق أوسطية»، بل حتّى نزع الهويّة الوطنية المحلّية والاستعاضة عنها بهويّات عرقية ومذهبية وطائفـية .. وفـي هذا التحدّي الأجنبي سعيٌ محموم لتشويه صورة الإسلام والعروبة معاً، من أجل تسهيل السيطرة على الأوطان العربية وثرواتها.
لقد أكّدتُ، منذ بدء الثورات والانتفاضات الشعبية العربية فـي مطلع العام 2011، على أهمّية التلازم بين مسائل: «الديمقراطية والتحرّر الوطني والهويّة العربية». فهذا التلازم بين هذه القضايا الثلاث يصون كلٌّ منها الآخر ويُحقّق مصالح الناس والأوطان والأمَّة معاً. فكل القوى الأجنبية التي تدعم «الديمقراطية لا غير»، تدعم أيضاً التخلّي عن الهويّة العربية وتُشجّع على التناقض مع حركات التحرّر والمقاومة، وسبيلها لذلك هو تشجيع الانقسامات الطائفـية والإثنية، حيث تضعف أولاً «الهويّة الوطنية» ويكون «العدو» هو «الآخر فـي الداخل» وليس الطرف المحتل أو الأجنبي. كذلك فإنّ إضعاف «الهويّة العربية» يبرّر العلاقة مع الأجنبي والاستنجاد به، كما يُوهن التضامن الشعبي العربي مع القضية الفلسطينية أو أي قضية عربية ترتبط بالمواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي ومن يدعمه.
المؤلم فـي واقع الحال العربي أنّ الأمَّة الواحدة تتنازع الآن فـيها «هويّات» مختلفة على حساب الهويّة العربية المشتركة. بعض هذه الهويات «إقليمي» أو «طائفـي»، وبعضها الآخر «أممي ديني أو عولمي»، كأنَّ المقصود هو أن تنزع هذه الأمَّة هُويّتها الحقيقية ولا يهمّ ما ترتدي من بعدها، من مقاييس أصغر أو أكبر فـي «الهُويّات»، فالمهمُّ هو نزع الهويّة العربية !
لو أنَّ كيانات هذه الأمَّة العربية قائمةٌ على أوضاعٍ دستورية سليمة تكفل حقّ المشاركة الشعبية فـي الحياة السياسية وتصون الحقوق السياسية والاجتماعية للمواطنين، هل كانت لتعيش ضعفاً وتنازعاً كما حالها الآن؟.
فالأوضاع السائدة الآن، فـي معظم البلاد العربية، كلّها أزمات تحمل مخاطر كوابيس لن يكون أيٌّ منها محصوراً فـي دائرته المباشرة، بل ستكون المنطقة بأسرها ساحةً لها ولانعكاساتها ولتفاعلاتها المتصاعدة. وهذه الكوابيس بدأت كلّها أحلاماً من أجل «الحرية» أو «الديمقراطية» أو حقوق «الأقليات»، ثم تعثّرت بعد ذلك فـي قيودِ عبوديةِ أوضاعها الداخلية وفـي توظيف القوى الإقليمية والدولية لحراكها. فما هو مشتركٌ بين هذه الأزمات العربية الراهنة هو أنّ بلدانها تفتقد للأرض الوطنية الصلبة، وللوحدة الوطنية السليمة، وللبناء الدستوريّ السليم، وللفهم الصحيح لمسألة «الهويّة».
Leave a Reply