ما وراءَ تعدّد المواهب
تخرّجت من الجامعة مختصّةً بطبّ الأسنان، وراحت تمارس عملها فـي العيادة، لتداوي الناس، كان شيء فـي داخلها يمور، مبعثه الصوت الرخيم الذي لم تدعه يختنق، فاستجابت لندائه حتّى أطلقته من وراء المذياع على منصّة المسرح تنتظم وراءها فرقة موسيقيّة تعزف الألحان بين مويجات صوتها العذب، لتشيع هذه المرّة فـي نفوس الناس إنعاش الأرواح.
عرفتها منذ أيّام قليلة، عندما دعيت لإحدى المناسبات، وشاءت الصدفة أن تجمع جلستنا طاولة واحدة، نظرت إليها بعد تبادل التحايا، فإذا بي أجدني أمام موسوعة جمال بلا حدود، سُطّرت ابتسامتها بقلم لم يمرّ على غيرشفتيها، وكان مظهرها يوحي بأنّه من أروع التصاميم الكونيّة، على الرغم من إيماني بأنّ المظهر لا يعوّل عليه فـي رصد الجوهر بحصيلته العموميّة، كانت نبرات صوتها معزوفة منسابة من سيمفونيّات الزمن الجميل، حين جلست بجانبي أحسست بأنّها فراشة خفـيفة الظلّ، تنظر إليّ بعينين جميلتين تخبّئان وراءهما شيئين متناقضين، ما بين فرح طاغٍ يصل مداه إلى أبعد الحضور، وبين حزن دفـين ربّما خلّفته قساوة الزمن أو ضغط الأهل وربّما الواقع، تغلّب فضولي على تحفّظي فبادرتها بالسؤال عن بعض خصوصيّاتها بعبارات مقتضبة، وبعد أن أجابتني ساد الهدوء لحظات، إذ لم أسمع منها إلّا صدى كلماتها الرقيقة الممزوجة بالأمل والثقة بالمستقبل مع الخوف من الحاضر.
رغبت فـي الإقتراب منها ومسكت يدها فربّتّ على كتفها بعد أن لمست رقّة روحها وحاجتها إلى أمٍّ تحتضنها وأختٍ تسرّي عنها هموم الحياة ومتاعبها، ثمّ تكوّر جسدها النحيل ملتصقاً بي، واضعةً خدّها على تلك الحفرة الغائرة من كتفـي التي لاءمتها كما لو كانت تلائم حجم رأسها وهي طفلة، شعرت بقداسة وعفوّيّة قلبها الصغير فـي شكله والكبير فـي محتواه، وهو يتخبّط داخل جسد امرأة، إنّها الحاجة إلى الحنان، رغم أنّها لم تترك جانباً فـيها لتوظّفه فـي الحنوّ على الناس، وإنّها الأحاسيس الإنسانيّة فـي زمنٍ لم يعد يكترث بالإنسان، والتفّت ذراعي حولها دون شعور، أحسست فـي تلك اللحظة كأنّني أضمّ ابنتي التي لم أرها منذ أعوام.
دعوتها فـي اليوم التالي إلى تناول طعام الغداء فـي بيتي، وأثناء احتساء القهوة بعد الإنتهاء من الطعام، حدّثنتي بأنّها ليست فقط طبيبة أسنان، وإنّما هي سيّدة أعمال أيضاً من الطراز الأوّل، ولكن كلّ هذا لم يأخذها من حبّها للغناء الأصيل والفنّ الراقي الذي تمارسه فـي أيّامٍ محدّدة من الأسبوع، هادفةً أن تسعد الناس وترسم البسمة على الوجوه، على الرغم من أنّها هي المحتاجة إلى السعادة وضمّة الحنان التي يحتاجها كلّ محرومٍ منهما.
أعجبت بهذه السيّدة التي لم يتجاوز عمرها الرابعة والثلاثين، إذ تحمل عقلاً يفوق ذلك بكثير، وقلباً يسع كلّ المحبّين والمخلصين، وطموحاً لا حدود له وحماساً للحياة لا يضاهى، أليس جميلاً أن نرى جيلاً صاعداً يتمتّع بهذه الصفات الرائعة، وبهذه الهالة الكبيرة من الهمّة والنشاط والذكاء؟
رعاك الله أيّتها السيّدة الجميلة، وياللطموح من مديات.
Leave a Reply