في كل ما يجري في لبنان منذ العام 2004، وحتى ما قبله بسنوات، له عنوان واحد، هو إسقاط المقاومة وتصفيتها، والنيل منها، لأنها استطاعت أن تهزم إسرائيل وتفرض عليها الانسحاب من أرض احتلتها، وهو ما لم يحصل في تاريخ الصراع العربي–الإسرائيلي، فالمقاومة في لبنان بشقيها الوطني والإسلامي، كشفت الأنظمة العربية، لا سيما تلك التي استسلمت أمام الكيان الصهيوني، وكذلك السلطة الوطنية الفلسطينية التي تخلت عن الكفاح المسلح وسلكت طريق المفاوضات التي لم توصلها إلا الى مزيد من التنازلات، مقابل استمرار الدولة العبرية في التوسع وقضم الأراضي وبناء المستوطنات وهدم القرى وطرد الفلسطينيين.
فهذه المقاومة اللبنانية مميزة، كما كانت قبلها وما زالت المقاومة الفلسطينية، وكل عمل مقاوم منذ أن بدأت تظهر مفاعيل وعد بلفور اللاحقوقي في العام 1917، الذي أعطى فيه وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور لليهود وعداً بأن تكون فلسطين وطناً لهم، بعد أن احتلها الجيش البريطاني بعد هزيمة الجيش العثماني واندحاره من المشرق العربي الذي تقاسمه الجيشان الفرنسي والبريطاني في معاهدة سايكس–بيكو، حيث ظهرت المقاومة ضد الاستعمار البريطاني في فلسطين والعراق، كما توأمه الفرنسي في سوريا ولبنان، وقد انتصرت هذه المقاومة وفرضت على فرنسا وبريطانيا الخروج من الدول التي استعمرتها لكنها تركت وراءها كياناً سرطانياً استيطانياً، يهودياً، بعد حرب عصابات قامت بها منظمات يهودية، فارتكبت المجازر بحق الفلسطينيين الذين قاوموا بما استطاعوا، وعندما أتت الجيوش العربية لإنقاذهم، كانت العصابات الصهيونية قد سيطرت على جزء كبير من فلسطين التي تم تقسيمها في 2 تشرين الثاني عام 1948، فقامت إسرائيل من جهة، ما بقي من فلسطين فتم انتداب النظام الأردني للإشراف على الضفة الغربية التي ألحقت به، كما استتبع قطاع غزة بمصر، وتعطلت المقاومة، بانتظار أن تقوم الجيوش العربية باسترداد فلسطين التي خسرتها كلها بعد هزيمة حزيران 1967 مما أعاد تحريك الكفاح المسلح الذي عاد إليه الفلسطينيون، فأنشأوا الفصائل، التي تنازعتها وتقاسمتها الأنظمة العربية التي عادت وأغرقتها في صراعات معها، وفيما بينها، وانكفأت المقاومة التي شكلت ضوءاً بعد ليل مظلم أرخى على العالم العربي، الذي التفت شعوبه حولها، ولقيت احتضاناً من حركات تحرير عربية ودولية، وهو ما استعجل إسرائيل مع حلفائها من الأنظمة العربية الى إطفاء هذا الضوء، والقضاء على هذه الشعلة التي بدأ نورها ووهجها ينتشر في كل أرجاء العالم العربي الذي شعر حكامه، أن المقاومة تحاصرهم بشعوبهم التي تطالبهم بدعمها وتقديم العون لها، كما أن بعض الأنظمة شعرت بخطر يتهددها وهو ما حصل في الأردن الذي أقلقه الوجود الفلسطيني المسلح، وبدأ الملك حسين، حرباً ضد هذا الوجود، ويقدمه على أنه يسعى للسيطرة على الحكم، ليكون الأردن “الوطن البديل” وهو مشروع إسرائيلي طرحه وزير الخارجية الإسرائيلية إيغال آلون في نهاية الستينات، كما طرح توطين الفلسطينيين في لبنان لتخويف أبنائه ووضعهم، بمواجهة الفلسطينيين الذين امتشقوا السلاح وانخرطوا في العمل الفدائي ضد الاحتلال الإسرائيلي، الذي كان انطلق في الأردن من خلال معارك الأغوار التي كانت معركة الكرامة أبرزها.
فمع كل ظهور للمقاومة، كانت إسرائيل تعمل على محاصرتها وضربها ومحاولة القضاء عليها، سواء مباشرة أو عبر حلفاء لها في أنظمة وأحزاب، وهو ما حصل مع المقاومة الفلسطينية في الأردن بارتكاب المجازر ضدها وكل من وقف معها، وتم إخراجها منه، لتنتقل الى لبنان، وتتخذ منه قاعدة لانطلاق عملياتها الفدائية، فقامت إسرائيل بتوجيه ضربات ضد قواعدها ومخيماتها واغتالت قياداتها، ولما فشلت في القضاء عليها، ألبّت بعض اللبنانيين ضدها، ولا سيما من هم سياسياً ضدها، وتربوا فكرياً أن يكونوا متحالفين مع الخارج، حيث لعب حزب الكتائب الدور الأساسي في التصدي للفلسطينيين تحت عناوين عنصرية على أنهم “غرباء” ويعملون للسيطرة على لبنان وطرد شعبه منه، ليستوطنوا فيه، وقد نجحت إسرائيل في تجنيد لبنانيين ضد الفلسطينيين الذين رفعوا شعار تحرير فلسطين وحق العودة، حيث هيأت الساحة اللبنانية التي انقسمت بين تيارين، تيار يؤيد الكفاح المسلح، وآخر رفع شعار الوجود الفلسطيني المسلح، حيث جرى وفي ظل هذا الجو السياسي اغتيال معروف سعد، أحد الرموز الوطنية اللبنانية، فتم تحريك الشارع الوطني ضد الجيش اللبناني الذي أطلق النار باتجاه تظاهرة لصيادي الأسماك في صيدا كان على رأسها المناضل سعد، في 23 شباط 1975، ولم يكد يمر شهران على هذه الحادثة حتى كان اغتيال أحد عناصر حزب الكتائب في عين الرمانة جوزيف أبو عاصي، وتم الرد بإطلاق نار على باص فلسطيني كان يمر في تلك المنطقة مما أشعل معارك بين الكتائب، والفصائل الفلسطينية، فكانت شرارة الحرب الأهلية، التي لم تتوقف إلا بعده 15 عاماً، تخللتها جولات من كل الحروب الداخلية والخارجية، على ساحته، حصل أثناءها أن إسرائيل اجتاحت لبنان مرتين في العام 1978 و1982، فأخرجت منظمة التحرير الفلسطينية منه، وأنهت حقبة المقاومة الفلسطينية، في لبنان والأردن، ولم تمض سنوات حتى اندلعت انتفاضة من داخل فلسطين المحتلة، واتخذت أشكالا مدنية باستخدام الحجارة وصولاً الى الصاروخ اليوم.
فما حاولته إسرائيل ضد المقاومة الفلسطينية، في لبنان، تسعى أن تكرره من جديد مع “حزب الله”، من خلال تشويه صورة المقاومة، وزجها في حرب داخلية، ونقل سلاحها الى الداخل، وهي بدأت تتحضّر لها كل ما يلزم من أجواء سياسية وأمنية، لتصفيتها، لكنها لم تتمكن منها في كل المراحل إذ حاولت في تموز العام 1993، من خلال عملية “تصفية الحساب” وقد راودت مسؤولين لبنانيين فكرة إرسال الجيش الى الجنوب، كما قامت بوجهها حملات في الداخل، لا سيما من اتجاهات سياسية وحزبية لها تاريخ في التعامل مع إسرائيل، أو في رفض المقاومة ضدها، واستخدام الوسائل الدبلوماسية لإخراج احتلالها من لبنان، إلا أن المقاومة التي كانت تسجل انتصارات بوجه إسرائيل، وتنفذ عمليات نوعية ضده، أربكت هؤلاء بعد أن حصل التفاف شعبي حولها، وقد أمّن الوجود السوري في لبنان غطاءً وحماية لها.
وازدادت الحملة على المقاومة في لبنان، بعد التحرير في العام 2000، لتسليم سلاحها بالرغم من ما أخذته من زخم معنوي في العالمين العربي والإسلامي وتأييد دولي، وهو ما كانت اكتسبته خلال سنوات الاحتلال الإسرائيلي، وبعد صمودها وتصديها للعدوان في نيسان 1996 وقد أعطاها شرعية عربية وإقليمية ودولية.
هذه الحملة كان الغرض منها إخراج لبنان من الصراع العربي–الإسرائيلي، وإضعاف المقاومة فيه والتي شكلت حركة تحرير للأرض وقوة ردع بوجه العدو الصهيوني، وطرحت نظرية “لبنان هانوي أو هونغ كونغ”، وقد استتبع ذلك برفع شعار خروج القوات السورية من لبنان، بعد أن انسحبت قوات الاحتلال الإسرائيلي منه، وتلازم طرح الخروج السوري مع تسليم المقاومة لسلاحها، وأن لا يبقى سلاح إلا في يد الشرعية وتحديداً الجيش اللبناني، وقد تكوّن “لقاء قرنة شهوان” برئاسة البطريرك صفير الذي انتدب مطراناً هو يوسف بشارة لحضور اجتماعاته وترؤسها، ليكون الأداة لترجمة نداء المطارنة الموارنة الذي صدر في أيلول للعام 2000، وبعد خمسة أشهر على التحرير الذي طالب بانسحاب الجيش السوري، وتسليم “حزب الله” سلاحه، حيث لقي هذا النداء دعماً خارجياً لا سيما من الولايات المتحدة الأميركية، ولاقاه أطراف لبنانيون، تقدمهم النائب وليد جنبلاط الذي وتحت عنوان مصالحة الجبل، التقى سياسياً مع البطريرك صفير الذي بدأ يصعّد ضد الوجود السوري، برضى جهات لبنانية، ومنها الرئيس رفيق الحريري الذي وبعد التمديد للرئيس اميل لحود وصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، أصبح له موقعاً في “لقاء قرنة شهوان” الذي تحول الى “لقاء بريستول” وقد كان صدور القرار الدولي مقدمة لفتنة داخلية، وهذا ما تم وصفه من قبل المقاومة وسوريا وحلفائها.
فالقرار 1559 كان البداية وعنوان الفتنة، لكن لتنفيذه لا بد من حدث كبير، فكان اغتيال الحريري الذي أخرج الجيش السوري من لبنان، لكنه لم يخرج الرئيس إميل لحود من قصر بعبدا، فتمت محاولات لمحاصرته بعد أن سقطت أميركا مع من أسمتهم من أدواتها “ثورة الأرز” لإسقاط الشرعية عن لحود، لكنها فشلت وانتهت مع حملة “فل” حيث لم يتمكن صانعو القرار المذكور من نزع سلاح المقاومة، فكان عدوان تموز 2006 الذي فشل العدو الصهيوني من خلاله أن يقوم بهذه المهمة.
واليوم تجري محاولة للوصول الى المقاومة، من خلال القرار الظني في اغتيال الرئيس الحريري، وقد كان رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي واضحاً ورسم خارطة طريق لكل ما يجري في المحكمة الدولية من محاولة لتسييسها، وهو أمر مرفوض ولا يوصل الى الحقيقة، لأن الهدف من وراء ذلك هو المقاومة وسلاحها، وقد وصل الى هذه الخلاصة، بعد أن كان، كما اعترف هو، أحد أدوات تنفيذ المشروع الأميركي، الذي حاصر سوريا، وقرر القضاء على المقاومة، فحصل اغتيال الحريري ليكون المدخل الى ذلك، لكن صمود سوريا وانتصار المقاومة أفشلا هذا المخطط الأميركي-الإسرائيلي، الذي عاد يطل من جديد، بعد أن أوقف ما سمي “الاتهام السياسي” ضد سوريا، ليتحول الى “حزب الله” الذي يخرج مسؤولون دوليون، وآخرون عرب ولبنانيون لاتهام عناصر فيه بالجريمة، وهو ما أعلنه السفير الفرنسي في لبنان دوني بيتون، وقد صححت ما قاله الخارجية الفرنسية، وكان سبقه الى ما ذكره رئيس الأركان في الجيش الإسرائيلي غابي اشكنازي، وقبلهما الرئيس سعد الحريري، وقد كشف النائب سليمان فرنجية أن رئيس فرع المعلومات العقيد وسام الحسن أخبره أن معلومات لديهم من خلال شبكة الاتصالات أن “حزب الله” مشترك عبر عناصر منه بالاغتيال، وتم اكتشاف ذلك في العام 2006، إلا أن الظرف الدولي والعربي كان يطلب استخدام الاتهام نحو سوريا، لأن أميركا بحاجة له ضدها لمساعدتها في العراق، ووقف مساعدتها للمقاومة.
والاتهام يوجه في هذه الفترة الى “حزب الله” لأن المطلوب رأس المقاومة، وهو ما شهد شاهد من أهله عندما كشف الناب وليد جنبلاط ذلك في مواقفه الأخيرة، واعترف أن “المحكمة مسيسة، ويا ليتها لم تكن… ولكن”.
وما يدور حول المحكمة من سجال، فلأنها ابتعدت عن الحقيقة، وتحولت الى أداة في يد مشروع أميركي–إسرائيلي هدفه إشعال فتنة في لبنان، من خلال صراع سني-شيعي، بدأت ملامحه عندما يتحدث نواب من تيار المستقبل، إن سعد الحريري السني مستهدف من “حزب الله” الشيعي الذي تدور شبهات حول ارتكاب عناصر منه في الجريمة دون أن يسأل هؤلاء إذا كانت مفبركة كما بدأت مع شهود الزور الذين شكلوا البلاغ رقم واحد لـ”ثورة الارز” وأن انكشافهم فضح انقلابهم وقُضي عليه.
Leave a Reply