وليد مرمر
فيما يحتدم النزاع الذي «اخترعه» الرئيس إيمانويل ماكرون مع العالم الإسلامي لا بد من ملاحظة عدة نقاط تتعلق بهذا الصراع المفاجئ:
1– لم تكن جريمة قتل ثلاثة فرنسيين قرب كنيسة في مدينة نيس، الخميس الماضي، الحادثة الإرهابية الوحيدة التي وقعت بعد قتل الأستاذ الذي عرض صوراً كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد. فلقد سبق تلك الحادثة، وحسب الصحافة الفرنسية، اعتداء وقع مساء الأحد الماضي ضد امرأتين مسلمتين من أصل جزائري هما «كنزة» و«أمل»، في الأربعينيات من العمر، وأمام أطفالهما، قرب برج إيفل، وذلك إثر مشادة تخللهما سباب وشتائم من قبل امرأتين قامتا بإطلاق كلابهما باتجاه العائلتين، قبل أن تقوما بطعن المرأتين المسلمتين مراراً صارختين «ارجعا إلى بلدكما»، و«أيتها العربيات القذرات». الحادث تسبب بثقب في إحدى رئتي «كنزة» التي طعنت ست مرات فيما جرحت «أمل» في يديها. ولكن السلطات الفرنسية عتمت على الخبر ولم تعلن بأن العمل كان عملاً «علمانياً إرهابياً» ضد مسلمتين، وبالمقابل، فقد سارع ماكرون إلى تصنيف جريمة نيس بأنها عمل «إسلامي إرهابي»! وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على مبدأ الكيل بمكيالين وازدواج المعايير، وذلك تبعاً للمصلحة السياسية. ولقد عبّر الأزهر عن هذا النفاق السياسي بعد الحادثة في بيان شدد فيه على أن «الازدواجية في التعامل مع الحوادث الإرهابية طبقاً لديانة الجاني هي أمر مخز ومعيب وتخلق جواً من الاحتقان بين أتباع الديانات».
2– إن حادثة الطعن الإرهابية مرفوضة ومدانة قلباً وقالباً. ولكن هل أن تصرف الشيشاني الفرنسي، عبدالله أنزوروف، كان بمحض إرادته تبعاً لنظرية «الذئب المنفرد» أم أنه كان مدفوعاً من جهات إرهابية معينة؟ فلقد ذكرت صحيفة «لو باريزيان» أن الفتى الشيشاني كان على اتصال بـ«جهادي» موجود في إدلب، آخر معاقل الفصائل المسلحة التكفيرية في سوريا، وذلك بناء على عنوان بروتوكول الإنترنت التابع له. وغنيٌ عن الذكر موقف فرنسا الممعن منذ سنوات في تقويض الدولة السورية عبر دعم المجموعات المسلحة وتسهيل تصدير «المجاهدين الأوروبيين» إلى سوريا. فهل كانت الحكومة الفرنسية تظن بأنها ستكون بمأمن من وصول الإرهاب الذي ساعدت في إيجاده ودعمه إليها؟
3– لقد خذل مساعدو ومستشارو ماكرون رئيسهم عندما نصحوه بتبني خطاب الكراهية لتعديل كفة الناخبين وذلك لإرضاء اليمين والقوميين الفرنسيين في الانتخابات القادمة. وهذا ربما نابع من جهلهم بالإسلام. فعلى سبيل المثال، قد لا يتفق المسلمون على تفسير موحد للقرآن أو للسنة؛ وقد يختلف ولاؤهم لأهل البيت أو الصحابة. ولكن يجمعهم على اختلاف مذاهبهم حب النبي، بل والتفاني في حبه، والذي هو من مقدمات الدين. وليس الحديث النبوي «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» إلا مصداقاً لهذا الركن. لذلك فقد تفاجأ ماكرون يصدور انتقادات قوية من عواصم «معتدلة» ومقربة من فرنسا كالرباط وعمان والقاهرة. وهذا ما لم يتوقعه صناع القرار في فرنسا وهو ما سيدفعهم بلا شك إلى إعادة حساباتهم. فمثلاً في المغرب الذي تجمعه بفرنسا علاقة تاريخية صدر التنديد بخطاب الكراهية الذي تبناه ماكرون عن وزارة الخارجية ثم عن المجلس العلمي الذي يترأسه الملك محمد السادس. واللافت كان بيان «الكرملين» المتوازن عقب حادثه نيس حيث صرح أنه «من غير المقبول إيذاء المشاعر الدينية كما ومن غير المقبول أيضاً قتل الناس».
4– إن «حرية التعبير» هي الشماعة التي يستعملها المسؤولون الفرنسيون للدفاع عن نشر الكاريكاتور المسيء لرسول الإسلام. وحرية التعبير مكفولة في دستور الدولة العلمانية في فرنسا. ولكن ثمة أمور تنبغي ملاحظتها. فحرية التعبير تكفل للفرد حرية الاستهزاء بفكر ما ولكن ليس من حاملها. فانتقاد أي فكر وحتى إن لم يكن موضوعياً هو حق لكل شخص. أما الاستهزاء بالأشخاص (وعلى رأسهم رسول المسلمين) لإيمانهم بفكر ما فهو يعتبر عمل كراهية وعنصرية ومدان في كل الظروف.
فعلى سبيل المثال، لقد تعرض المسلمون لجرائم إبادة جماعية وتعرضت المسلمات لاغتصاب ممنهج في كلا البوسنة وميانمار. في البوسنة من قبل مسيحيين أورثوذوكس وفي ميانمار من قبل بوذيين. لكن لم نر إعلاناً واحداً صدر من أي مسلم يشهر برموز أرثوذكسية تاريخية كـ«يوحنا الدمشقي» أو «سمعان اللاهوتي»، أو بـ«بوذا» رغم أن هذه الرموز ليست مقدسة لدى المسلمين. هذا هو المصداق الحقيقي والذي لا لبس فيه الذي يتبعه المسلمون على اختلاف أهوائهم في احترام مقدسات الآخر حتى لو كان هذا الآخر من أشد المنكلين بهم. وهذا ما تعلمه المسلمون من نبيهم الأكرم من وثيقة «عهد المدينة». تلك الوثيقة التي تعتبر أهم وأقدم وثيقة تعطي الحقوق المدنية كاملة للأقليات الدينية في المدينة، سيما اليهود. ولقد سبقت وثيقة عهد المدينة بحوالي 600 سنة، وثيقةَ «الماغنا كارتا» الإنكليزية، التي حدّت من سلطة الملك لصالح ممثلي الشعب في البرلمان في القرن الثالث عشر، وتعتبر من مداميك عصر النهضة!
في مثال آخر، حكم المسلمون إسبانيا لثمانية قرون نشروا خلالها حضارة في غاية الرقي ما زالت آثارها قائمة حتى الآن. ولكن بعد سقوط الدولة الإسلامية تم القضاء على كل ما له علاقة بالإسلام فلم يبق مسلم أو مسجد واحد في الأندلس. بالمقابل، تجد أن وجود المسيحيين في الشرق قد ازدهر خلال حكم الدول الإسلامية ولم يتعرض أحد لهم، لا من قريب ولا من بعيد. فلم تتعرض الأقليات المسيحية في العراق وسوريا إلى القتل والتهجير ولم تستباح مقدساتها إلا بعدما تمت «اصنعة» داعش من قبل الغرب (كما اعترفت بذلك هيلاري كلينتون نفسها).
وفي عهد النبي، كان المنافقون يعيشون بين المسلمين في المدينة وكان الرسول يعرفهم بأسمائهم ولكنه لم يتعرض لهم ولم ينكل بهم قط. وفي خلافة الإمام علي انشق عنه الخوارج بعد وقعة صفين وعسكروا خارج الكوفة وراحوا يشتمون خليفة المسلمين على مآذنهم ومنابرهم وعلى مسمع منه، لكن سياسته معهم قامت على إعطائهم هذا الهامش من حرية التعبير طالمما «لم يبدئونا بقتال».
ثم إن المرء ليتساءل عن ازدواجية المعايير فيما خص حرية التعبير في فرنسا. ففيما يتبجح ماكرون والعلمانيون بـ«حرية التعبير» فيما يتعلق بالرسوم التافهة المسيئة للنبي، نرى أن القانون الفرنسي «العلماني» يجرم من يشكك في بعض أحداث الهولوكوست؟ أفليست هذه حرية تعبير؟.
5– يتشدق دعاة العلمانية بأن الإسلام والعلمانية هما على طرفي نقيض. وهذا ادعاء بلا بينة. والحقيقة أن الإسلام والعلمانية يتكاملان بشكل لافت. فمثلاً فيما كان نظام الحكم الإقطاعي في العصور الوسطى قد قسم المجتمع إلى ثلاث طبقات (رجال دين ونبلاء وعبيد)، نرى أن الإسلام لم يوجد كهنوتا البتة وذلك عكس المسيحية. وهذا من أهم أسباب التهجم على الإسلام من غير دراية. فمثلاً لا يتم الزواج الكنسي المسيحي إلا إذا قام الكاهن بتزويج الرجل من المرأة باسم السلطة المعطاة له من الكنيسة. أما الطلاق فهو أشد تعقيداً. بينما الزواج في الإسلام هو عقد مدني يقوم على اتفاق بين شخصين بالغين ومن غير تدخل للدين فيه. والطلاق هو مجرد إيقاع أي أنه حتى لا يتطلب رضى الطرفين.
ومن غير المتعارف عليه بين المسلمين وجود «شيخ» توكله المرأة عنها لتزويجها من الرجل، إلا ابتداعاً لم يشرعه الدين.
لقد كان الأعرابي يدخل على مجلس رسول الله ولا يميزه بين أصحابه فيضطر للسؤال عنه، ذلك أن النبي لم يكن يتميز بلباس «كهنوتي» عن عامة الناس، كما هو الحاصل في أيامنا بين «علماء الدين». كذلك يعتقد بعض الدارسين كالدكتور علي عبد الرازق وغيرهم أن الأسلام لم يأت بنظرية للحكم، وهم يعتبرون أن النظرية السياسية في الإسلام هي من المساحات التي تركها التشريع لاجتهادات البشر.
باختصار، الإسلام والعلمانية ليسا متنافرين كما يظن البعض بل قد يتكاملان ويندمجان كما أصّل لهذا المفكر، محمد أركون.
ومن جهة أخرى فإن قانون العلمانية الصادر عام 1905 في فرنسا يمنع الدولة من التدخل في الأديان. والعلمانية إنما تقوم على مبدأين هما عدم تدخل الدين في الدولة وعدم تدخل الدولة في الدين. فكيف إذن يعطي ماكرون الحق لنفسه بالتدخل في الإسلام داعياً إلى نشر الرسوم الكاريكاتورية التافهة على مباني الدولة الحكومية الممولة من دافعي الضرائب الفرنسيين، والذين تذهب بعض التقديرات إلى أن بينهم ما يناهز عشرة ملايين مسلم؟ بل كيف يسوّغ الرئيس «العلماني» لنفسه إلقاء الخطب «الإصلاحية» عن «أزمات» الإسلام؟ أليس هذا تعدياً على مبادئ العلمانية التي تحظر عليه التدخل في الأديان.
والسؤال الذي يطرح نفسه بعد تفاقم الأزمة الماكرونية–الإسلامية: هل ما يحصل الآن هو ليس إلا غيمة صيف عابرة في العلاقة بين الغرب والإسلام، أم أنه أحد تجليات نظرية صدام الحضارات التي بشرنا بها «صامويل هنتينغتون»؟ ندعو الله أن يكون التخمين الأول هو الصائب.
walidmarmar@gmail.com
Leave a Reply