كمال ذبيان – «صدى الوطن»
منذ مرحلة ما بعد اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان، وأعاد بناء مؤسسات الدولة التي تشرذمت، وانقسمت بين المناطق، وتوزّعت بين الطوائف، ظهر صراع على تركيبة الأجهزة الأمنية، حيث كان كل فريق يريد جهازاً أمنياً له الكلمة العليا فيه.
قضية الحاج–غبش
كشفت قضية المقدم سوزان الحاج التي اتّهمت بفبركة تهمة العمالة لإسرائيل للفنان زياد عيتاني، بالتعاون مع المقرصن إيلي غبش، وانتهت بتبرئة الحاج من التهمة، وحصرها بغبش، كشفت عن صراع بين الأجهزة الأمنية من جهة، وبين القضاء والأجهزة الأمنية من جهة أخرى، بسبب استتباع كل جهاز أمني لطائفة وزعيمها أو الحزب الأقوى فيها وفق ما اتفق عليه زعماء الحرب الأهلية، حيث طالبت الطائفة الشيعية في أثناء انعقاد مؤتمري لوزان وجنيف في العام 1984 للحوار بين الأطراف اللبنانية في عهد الرئيس أمين الجميّل، باستحداث مديرية أمنية لها، فكانت مديرية أمن الدولة من حصّتها، كما هي حصة المديرية العامة للأمن الداخلي من الحصة السنية، ومديرية مخابرات الجيش للموارنة، والشرطة القضائية في قوى الأمن الداخلي للدروز.
إذن لكل طائفة أساسية في لبنان جهازها الأمني، أو مؤسستها العسكرية والأمنية، وهو ما يفرض «فدرالية أمنية»، مثل «الفدرالية السياسية» القائمة على تقاسم السلطات، دون ذكر ذلك في الدستور، بل هو عرف أصبح بالممارسة وبالأمر الواقع نصاً دستورياً غير مكتوب. وقد تمّ استبدال، مديرية الأمن العام من الطائفة المسيحية إلى الطائفة الشيعية، وأسندت إلى اللواء جميل السيد في بداية عهد الرئيس إميل لحود، والذي أتى إليها من مخابرات الجيش كنائب أول لمديرها، وتحوّلت مديرية أمن الدولة من الشيعة إلى الطائفة المسيحية، وهذا يؤكّد عدم حصرية وظائف الفئة الأولى بطائفة معينة، ويمكن استبدالها، وهو ما حصل تحت اسم المداورة، التي جرت في القضاء والسلكين الإداري والدبلوماسي.
شعبة المعلومات
كان الرئيس رفيق الحريري، يشكو من مخابرات الجيش، بأنها لا تزوّده بالتقارير الأمنية، لا بل تقوم بالتنصت عليه وعلى غيره من السياسيين وشخصيات اقتصادية ومالية وغيرها، لا بل تفبرك له الأخبار التي تضرّه في السياسة، وكان يسمي اللواء السيد، الذي كان يتهمه بلعب دور سلبي ضده بالتنسيق مع المخابرات السورية، أو ما كان يسمى «النظام الأمني اللبناني–السوري المشترك». ولذلك جهد الحريري لإنشاء جهاز أمني في قوى الأمن الداخلي، يقوم بجمع المعلومات وتقديمها له، كي لا يكون تحت رحمة مزاجية المخابرات التي كانت تقدّم له أحياناً المعلومات غير المفيدة، فأنشأ «فرع المعلومات» الذي تحول إلى شعبة، ومازال دون مسوغ قانوني، إذ تمّ تعزيز هذه الشعبة بعد اغتيال الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان، واعتقال الضباط الأربعة وهم: اللواء جميل السيد، اللواء علي الحاج (مدير عام قوى الأمن الداخلي)، العميد ريمون عازار (مدير المخابرات في الجيش) والعميد مصطفى حمدان (قائد لواء الحرس الجمهوري)، بتهمة المشاركة في التحضير والتخطيط لاغتيال الحريري، مع ضباط سوريين، قبل أن تتم تبرئتهم من لجنة التحقيق الدولية، بعد أربع سنوات اعتقال، فنشأ نظام أمني جديد تقدّمت فيه شعبة المعلومات التي زُوّدت بكل التقنيات، لتقوم بأدوار أمنية خارج صلاحياتها التي من المفترض أنها تقتصر على انضباط ضباط وأفراد قوى الأمن، حيث تخطّتها، بأخذ صلاحيات من الشرطة القضائية مما أغضب وليد جنبلاط، وبعضاً من مخابرات الجيش والأمن العام، فوقع الخلاف بين الأجهزة الأمنية، ودار صراع حول مَن يمسك بالملف الأمني.
مجلس الأمن المركزي
الصراع بين الأجهزة الأمنية، قد يحصل في كثير من الدول، إلا أنه في لبنان يأخذ طابعاً طائفياً ومذهبياً، فأنشئ لاحتوائه مجلسُ الأمن المركزي في وزارة الداخلية، والذي يضم قادة المؤسسات العسكرية والأمنية، ويحضره كل من قائد الجيش والمدير العام لقوى الأمن الداخلي، والمدير العام لأمن الدولة، والمدير العام للأمن العام، ومحافظا بيروت وجبل لبنان، ومدعي عام التمييز، إلى جانب مسؤولين أمنيين آخرين، حيث يجتمع هذا المجلس شهرياً ودورياً برئاسة وزير الداخلية، للتنسيق بين هذه الأجهزة، التي تتسابق على أن تظهر مَن هو الأفعل بينها على الأرض، والأكثر إمساكا بالوضع الأمني، فاختلطت الصلاحيات، وتضاربت المسؤوليات، وهو ما ظهر في أكثر من حادثة حصلت، إذ كان جهاز أمني معين، يمنع جهازاً آخر من التحقيق في قضية ويمسك بالملف لوحده، فيضطر كل منهما إلى محاولة جمع معلومات أكثر، للظفر بـ«الإنجاز الأمني» لنفسها.
مجلس الدفاع الأعلى
ورغم تفعيل مجلس الأمن المركزي، الذي له فروع في المحافظات، فهناك مؤسسة جامعة أخرى منصوص عليها في الدستور وهي مجلس الدفاع الأعلى الذي يترأسه رئيس الجمهورية كلما دعت الحاجة، ويضم كلاً من رئيس الحكومة ونائب رئيس الحكومة ووزراء الداخلية والدفاع والمال والاقتصاد والخارجية والإعلام، إلى جانب قادة المؤسسات العسكرية والأمنية، وتنحصر صلاحياته بالمسائل الأمنية والدفاعية كلما ظهر خطر يهدد لبنان، وقد التأم المجلس قبل أشهر لمناقشة النزوح السوري وخطورته والحد منه، ومحاصرة ما يمكن أن يحدثه من خروقات أمنية، ووُضعت خطة لمعالجته، كما في تأمين عودة النازحين، لاسيما غير الشرعيين، حيث بدأت عملية تنظيم تواجدهم، كما عمالتهم وفتحهم لمصالح تجارية.
وهذا المجلس الذي يشبه الحكومة المصغرة، أو حكومة إدارة أزمات، فإن مقرراته سرية، وله أمانة عامة يتولاها ضابط في الجيش اللبناني برتبة لواء، إذ تقع على المجلس مهام دقيقة وخطيرة، كقضية مواجهة الخروقات الإسرائيلية للسيادة اللبنانية، ومنها ملف النفط والغاز عند الحدود، وما سمي «المنطقة الاقتصادية الخالصة»، إذ كان لمجلس الدفاع موقف رسمي موحد بالتمسك بترسيم الحدود، وفق الخرائط والوثائق اللبنانية، وليس كما رسمها الموفد الأميركي فريدريك هوف الذي اقتطع من لبنان 360 كلم2 لصالح العدو الإسرائيلي.
إشكال مطار بيروت
ولأن التنسيق غائب بين الأجهزة الأمنية، وتصارعها على الصلاحيات، فإن أكثر من إشكال حصل فيما بينها، وكان أخطرها في مطار بيروت الدولي، بين عناصر من جهاز أمن المطار، الذي يجمع كلاً من الجيش وقوى الأمن الداخلي والأمن العام والجمارك، حيث بلغ الأمر حدّ التضارب بين عناصر من الجمارك وآخرين من الجيش تحت أنظار المسافرين، لأن ضابطاً أو عنصراً يريد أن يدخل مسافراً قد يكون مطلوباً للقضاء، أو تسهيل سفر آخر مع حقائبه التي قد تكون مملوءة بالممنوعات، وهو ما كشفته التحقيقات الأمنية والقضائية عن تورط عناصر من جهاز أمن المطار في أعمال مخالفة للقانون، فوضع القضاء العسكري يده على الملف، وتدخّل أكثر من وزير داخلية لحل الإشكالات بين ضباط الجهاز، سواء من الجيش أو قوى الأمن أو الأمن العام والجمارك، لكن تدخل المرجعيات السياسية، كان يحول دون معاقبة المتسببين بالإشكالات أو مخالفة القانون، وهو ما يدخل في صراع الأجهزة الأمنية والعسكرية.
القضاء أيضاً
لا يتوقف الصراع عند الأجهزة الأمنية، بل يسري على القضاء أيضاً، حيث ظهر خلاف بين شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي وبعض القضاة حول قضايا توقيف تجار مخدرات وإخلاء سبيلهم من قبل قضاة، وهو فتح الباب لكشف المستور عما يدور من فساد في أروقة القضاء، مما أدى إلى توقيف حوالي عشرين قاضياً عن ممارسة وظيفتهم وإحالتهم إلى التفتيش القضائي للتحقيق معهم،والبت بوضعهم الوظيفي، كما سبق أن طُرد مؤخراً قضاة متورطون برشاوى، في حين أن القضاء تقع عليه مسؤولية محاربة الفساد ومكافحة الرشوة بالتعاون مع الهيئات الرقابية، لكن وجود قضاة لا يتحلون بالنزاهة، أدخل القضاء نفسه في دائرة الشك، كما أن تدخل القوى السياسية في عمله، يمعن في إضعافه، ولذلك يطالب نادي القضاة بتحقيق استقلالية السلطة القضائية.
في المحصلة يمكن الاستنتاج أن النظام الطائفي المتمكن من لبنان هو مصدر الصراع السياسي الدائم على المكاسب والمغانم، ومصنع الفساد وضعف الدولة، وما الصراع بين الأجهزة الأمنية الموزعة طائفياً إلا خير دليل على ذلك.
Leave a Reply