عباس الحاج أحمد – «صدى الوطن»
عام 1973، اجتمعت الوفود من أرنون ويحمر والنبطية الفوقا وبلدات أخرى في جنوب لبنان في مظاهرة حاشدة. انتفاضة بوجه الفساد والإقطاع. مظاهرة باسم المزارعين في وجه شركة التبغ «الريجي». ثورة عمال الأرض وعشاق التراب. تلك الأجواء، صنعت شخصية زهير علوية، ابن أرنون ويحمر. الطفل الذي تربى تحت قلعة الشقيف. لينظر دائماً نحو القمة بعيني ولديه، فدوى وعباس.
الأسبوع الماضي، أدت فدوى علوية حمود قسم اليمين في مدرستها الأم «فوردسون» وسط حشود غفيرة تقاطرت للاحتفال بتوليها ثاني أرفع منصب في مكتب الادعاء العام بولاية ميشيغن بعد المدعي العام. الاحتفال الضخم حضرته جدتها «أم زهير» عبر الإنترنت. تلك الجدة التي جمعت صور حفيدتها على هاتفها الخاص، مستعينة بيديها المتشققتين من زراعة القمح والتبغ. قصة الصبية المشاكسة، العاشقة لنشر العدالة، والعاملة بصبر أبناء الحقول الذين ينتظرون الحصاد عاماً بعد آخر.
بلقاء خاص لـ«صدى الوطن» مع والد فدوى السيد زهير علوية. سافرنا عبر الزمان والمكان. لنستعرض أمامكم شريط صور، يبدأ بالأبيض والأسود وينتهي بالبث المباشر عبر الفيسبوك لقصة صبية مشاكسة عشقت نشر العدالة، وامرأة صبورة بصبر أبناء الحقول الذين ينتظرون الحصاد من عام لآخر.
.
تحت القلعة
وصل أبو عباس مع عائلته إلى الولايات المتحدة عام 1997. بعد عمله لفترة في لبنان بمجالي الإذاعة والصحافة. جاء إلى أميركا ليبدأ من الصفر، عاملاً في محطة بنزين. متنقلاً بعدها بين عدة أعمال وعدة دول من أفريقيا إلى أميركا الجنوبية إلى أميركا الشمالية.
بين حي السلم وأرنون تنقلت العائلة في لبنان أيام الاحتلال الإسرائيلي. امتلك أبو زهير جراراً زراعياً في ضيعته.
وقبل ذلك بأعوام، بين زراعة القمح والتبغ تربت العائلة في منطقة «منحدر القلعة»، قلعة الشقيف. القلعة التي ترمز إلى الشموخ والإباء، فيما سكان المنحدر ملتصقون بالتراب. بهذا الوصف، عبر أبو عباس عن الجغرافيا التي تربى عليها، مضيفاً: «كلما نظرنا إلى القلعة، تحرك بداخلنا طموح خاص ما بين الواقع والحلم».
«عشنا واقعاً مرّاً كمرارة شتلة التبغ. ولكن، حركتنا الأحلام. لتطبع القلعة في أذهاننا شموخاً نصبو إليه بحياتنا العملية. وفوق القلعة كانت السماء دليلنا الدائم لرؤية مجد الله. كنا نشعر دائماً بأن هذا الواقع لن يدوم. وسنمحو المر من حياتنا بنجاح أطفالنا. قلاع الوطن بقيت ثابتة. بينما الكثير من شبابنا المهاجر تحول إلى قلاع متنقلة باسم البشر لا باسم الحجر».
القاعدة التربوية الأولى
يستطرد أبو عباس حديثه مظهراً أهمية بناء العلاقات الاجتماعية بكل أنواعها في ذهنية الطفل. مُستذكراً ابنه عباس عند سفره إلى لبنان، إذ كان يسمي وجهة رحلته: «ديترويت–جدتي، جدتي– ديترويت»، مضيفاً: «كنت أعمل كصحافي بينما زوجتي عايدة بزي ابنة بنت جبيل عملت كمعلمة. وهي خريجة دار معلمين بمجال الموسيقى. كانت وجهة تعليمها المدارس الرسمية في الضاحية الجنوبية. وفي زحمة انشغالنا، تربى طفلانا بحضن جدتهما أم زهير، التي زرعت فيهما قيم الريف والضيعة، من الإلفة وحب الآخر والتعلق بالبساطة. إنها عقلية العطاء والمثابرة والمحبة».
يكمل الوالد الفخور بمركز ابنته الجديد قائلاً: «لقد ذكرت دانا نسل (المدعي العام في ميشيغن) قصة عن فدوى بعد ولادتها. إذ اصطحبتني ممرضة نحو غرفة مليئة بالأطفال المولودين وسألت هل بإمكاني التعرف على ابنته في زحمة البكاء». أثناء وقوفي بجانب الباب، لفتني بين الجميع… ولد واحد برأس كبير يفتح عينيه وينظر يميناً وشمالاً بلا أي دموع. قلت للممرضة هذه هي ابنتي، وكانت كذلك».
يؤكد «أبو عباس» أن فدوى، منذ طفولتها، كانت لديها موهبة خاصة في نسج العلاقات الاجتماعية. «مثلاً، بعد قدوم أخي محمد طبيباً جراحاً متخصصاً من روسيا، بدأ المرضى بالقدوم إلى منزلنا يومياً ومن الساعة السابعة صباحاً. كان عمر فدوى حينها خمس أو ست سنوات. ولكن ذلك لم يثنها عن استقبال المرضى في صالون العائلة. كانت تقوم بتسويق عمها بكل ثقة! كانت علاقتها مع أعمامها وأقربائها علاقة صداقة. تتبادل معهم الأحاديث. تناقشهم في مختلف القضايا… فرضت نفسها بقوة. حتى أنها قامت بدور المعلمة ومن ثم المديرة مع أولاد الحارة».
يختصر أبو عباس طفولة ابنته بالقول: «عاشت فدوى روح القرية. جبلت يديها بالتراب. قطفت الورود من الحقول».
جيل التعب والشقاء
«أم زهير»، الحاجة إنصاف كريم، ثمانينية من مواليد بلدة يحمر الجنوبية. كانت من قلائل جيلها الذين تعلموا القراءة والكتابة، وهي من هواة متابعة الاخبار والتحليل السياسي. تحب طرح الأسئلة. وهي من جيل التعب والشقاء. يداها متشققتان كالأرض التي لم يصلها الماء منذ زمن بعيد. كانت تعود من قطاف التبغ لتحضير الطعام قبل أن تعود لتكمل عملها الزراعي. امتلكت القدرة على حمل ربطات تبغ عديدة بيد واحدة. وكان لها اهتمام خاص بفدوى وعباس.
هذا الاهتمام لم ينقطع يوماً، يقول «أبو عباس»، «تأثرت كثيراً بشخصية جدتها. واليوم تحمل أمي هاتفاً، ترسل من خلاله تسجيلات صوتية يومية لها».
أما «أبو زهير» فتوفي عام 2000. لتستمر «أم زهير» بمسيرة العطاء في هذه الحياة. كذلك تأثر الأطفال بجدهم الآخر الأستاذ قاسم بزي، الذي علم قسماً كبيراً من أبناء منطقته. فتربى الأولاد على حب العلم والثقافة. يتذكر «أبو عباس» بفخر ابنته أثناء دراسة المحاماة، كيف كانت تنهمك، ليلاً–نهاراً مع الكتب. وكذلك أخاها عباس، المتخصص بالأوضاع الصحية للمدن والذي أصبح مستشاراً للسياسات الداخلية في مكتب النائب الأميركي آندي ليفين.
المسيرة التعليمية
قبل وصولها إلى الولايات المتحدة، درست فدوى في لبنان بمدرسة «مينيت مودرن» على طريق المطار.
وبعد وصولها إلى ديربورن في تسعينات القرن الماضي، واصلت فدوى الدراسة في ابتدائية «لاوري» وتخرجت من ثانوية «فوردسون» قبل أن تلتحق بكلية «هنري فورد» ثم بجامعة «وين ستايت» حيث حصلت على شهادة المحاماة وبدأت مسيرة مهنية مكللة بالنجاح.
تزوجت عام 2014 من المحامي علي حمود القاضي المساعد في محكمة ديربورن، ولها ولدان، جوليا (ثلاث سنوات) وهادي (أربع سنوات).
خدمة الناس
يشدد زهير علوية على أهمية زرع حب خدمة الآخر في نفوس الأطفال: «علاقتي مع أولادي هي علاقة صداقة. زرعت فيهم مع أمهم، حس التطوع وخدمة المجتمع. عندما كنت فاعلاً في اللجنة العربية لمكافحة التمييز العنصري (أي دي سي) كانت فدوى عضوة في مجلسه المكون من مختلف الجنسيات العربية. كان لدي إصرار على دمج أولادي في نشاطات المجتمع. صحياً واجتماعياً وسياسياً. ليتفاعلوا مع المحيط ويتحلوا بحس المسؤولية تجاه الجالية بالأفراح والأتراح.
لفدوى أيضاً، تاريخ مميز بنشاطاتها الطلابية. ألقت فدوى كلمة المتخرجين من مدرسة «فوردسون»، في المكان الذي أدت قسمها فيه يوم السبت الماضي.
يضيف علوية: «خدمة الناس هي أهم الطرق لتتعلم كيفية القيادة بحكمة. التطوع والمشاركة سبيل أساسي للنجاح».
ابنة أرنون نسجت علاقات وطيدة مع المجتمع بكل أطيافه، «لينتخبها الأميركي كما انتخبها العربي، عندما ترشحت لمجلس ديربورن التربوي. الكل ساعدها بعفوية ومحبة وإخلاص».
في هذا السياق، يعبر أبو عباس عن أهمية الاندماج والانفتاح على كل الثقافات بالقول: «الخوف من الاندماج بالمجتمع الأميركي خاطىء. الخوف مصدره الشخصية الضعيفة التي تميل مع كل ريح. لكنك عندما تُسلح أطفالك بالعلم وتحصنهم بالثقة بالنفس ينعدم ذلك الخوف».
الله مع المحتاجين والمظلومين
.. لا بالمساجد
يضيف: «علمت أبنائي ما يلي: لا تتخلو عن الله. ولكن لا تكونوا أسرى لتجار الدين. هناك قوة رائعة تحكم الكون، لا يحق لأحد أن يحتكرها. أو يعتبر نفسه ممثلاً حصرياً لها، ليقوم بفرز الناس على أسس مذهبية. الله لكل الناس. ومن يخدم الانسان يخدم الله».
ويتابع «أتذكر دائماً قصة النبي إبراهيم عندما أوحى له الله ليبني بيتاً، فبنى مسجداً. أرسل الله ملاكاً لإبراهيم معبراً عن غضبه. هو لا يريد معبداً. يريد يداً تمسح على جبين مسكين، تساعد يتيماًَ وتتكاتف مع المظلوم. وعلى العكس عندما يشكو المحتاج نقوم بجمع المال ونبني مسجداً، بينما الحاجة هنا ليست للدعاء بل للعمل والإنتاج».
«هذه هي ثقافة عائلتي. أعلم أننا بأمس الحاجة لبناء ثقافة عمل لا ثقافة دعاء في جاليتنا وبلداننا. يحاول الكثيرون نقل صراعتنا الطائفية إلى الجالية. لن نسمح لهم بالتغلغل. رأينا ذلك في الانتخابات، ثقافة التضامن غائبة. ولكن، سنعيد إحياءَها. والفرص متاحة لكل من يمتلك الكفاءة الحقيقية وكل من يعمل لمصلحتنا العامة. نحن الآن لسنا في مرحلة الترف، نحن في مرحلة العمل نحو مستقبل أفضل».
وصية الأب لإبنته
يختم «أبو عباس» حديثه بالقول إنه يرى في كل شخص طموح ومثابر في الجالية ابناً له. ويتابع «أكدت لفدوى وصيتي: وصولك لأي مركز لا يضيف لك شيئاً إن لم تضيئي الطريق للآخرين، كوني عوناً لأي شخص تستطيعين مساعدته».
Leave a Reply