هناك تغييرٌ بلا شكّ يحدث في المنطقة، لكنّه حتى الآن تغيّر دون حسمٍ للاتجاه الذي يسير فيه.. أي أنّ هذه المتغيّرات العربية تحدث الآن باتجاهات مختلفة، وليس لها مستقرّ واحد يمكن الوصول إليه. فجملة عوامل تتفاعل الآن لإحداث تغييرات داخل المنطقة العربية. بعض هذه العوامل هو نموّ طبيعيّ في مجتمعات الأمَّة، وبعضها الآخر هو مشاريع من الخارج يراهن على حصادٍ خاصّ يتناسب مع مصالحه في داخل المنطقة.
وهناك نماذج مختلفة من حركات التغيير السياسي التي تشهدها حالياً المنطقة العربية. إذ أنّ أمراض جسم النظام العربي الراهن ليست لها وصفة طبية سياسية واحدة. وما نجح في تونس ومصر لم نرَه يحدث في بلدان عربية أخرى شهدت أو تشهد انتفاضاتٍ وتحوّلاتٍ سياسية هامّة. وليست الظروف الداخلية فقط هي عناصر الاختلاف بين هذا البلد وذاك، بل تلعب أيضاً المصالح الدولية والإقليمية دوراً هاماً في تقرير مصير بعض البلدان العربية.
ثمّة “رأي ثالث” لا يجد له متّسعاً كبيراً في التداول السياسي والإعلامي، وهو رأي يرفض حصرية ما يحدث بأنّه إمّا “ثورات شعبية فقط” أو “مؤامرات خارجية فقط”!. فهذا “الرأي الثالث” يؤكّد على نزاهة الثورات والانتفاضات الشعبية العربية، وعلى حقّ الشعوب في التحرّك من أجل الحدّ من الاستبداد والفساد، لكن دون إغفالٍ لما يحدث أيضاً من محاولاتٍ إقليمية ودولية لتوظيف هذا الحراك الشعبي وتحريفه وجعله يخدم مخطّطات ومشاريع سبق وجودُها بسنوات هذا الحراكَ العربي.
ويمكن القول أنّ هناك الآن ثلاثة عناصر تصنع الحاضر العربي: أوّلها وأهمّها، الانتفاضات الشعبية على حال الاهتراء السائد عربياً في الأوضاع السياسية الداخلية، بوجهيها الحاكم والمعارض. وثانيها، التدخّل الأجنبي في شؤون الأوطان العربية. وثالثها، هو غياب المشروع الفكري النهضوي الجاذب لشعوب الأمَّة العربية ولجيلها الجديد الذي كان تائهاً في العقود الماضية بين السلبية والتطرّف. فصحيحٌ أنّ هناك خصوصيات يتّصف بها كلُّ بلد عربي، لكن هناك أيضاً مشاكل مشتركة بين أقطار الأمَّة العربية، وهي مشاكل تنعكس سلباً على الخصوصيات الوطنية ومصائرها. لذلك الحاجة ماسَّة لمشروع عربي نهضوي مشترك، كما هي الحاجة للمشاريع الوطنية التوحيدية داخل الأوطان نفسها.
وإذا كانت أيّة دولة تعني مزيجاً من الحكم والشعب والأرض وعلاقات الجوار، فإنّ السؤال الهام أمام المتغيّرات الحاصلة في أيٍّ من الدول العربية، هو: كيف الحكم، لأيِّ شعب، على أيِّ أرض، وبدعم من؟!. وهي أسئلة هامة معنيّةٌ بها الآن الحركات الشعبية العربية وقادتها، في ظلِّ هذه الانتفاضات الحاصلة من أجل الديمقراطية والإصلاح في المنطقة.
إلا أنّه مهما جرى من اختلافٍ بين القوى السياسية المحلية على طبيعة الحكم، فإنّ الحسم مطلوبٌ أولاً لوحدة هذا الشعب، ولحرّية هذه الأرض، ولرفض أي هيمنة أجنبية، ولعدم تحطيم مؤسسات الدولة الواحدة.
أيضاً، فإنّ الأمَّة العربية ما زالت تعاني من انعدام التضامن العربي ومن الانقسامات والصراعات بين حكوماتها، إضافةً لهشاشة البناء الداخلي ولغياب الديمقراطية السليمة، ممّا يسهّل الهيمنة الخارجية على بعض أوطانها ويدفع بالوضع العربي كلّه نحو مزيدٍ من التأزّم والتخلّف والسيطرة الأجنبية.
فالأمَّة العربية تحصد مزيجاً من نتائج سياسات حكّامٍ فاسدين ومن نموٍّ كبير لدور الطائفيين والمذهبيين والمتطرّفين العاملين على تقطيع أوصال كلّ بلد عربي لصالح مشاريع أجنبية وصهيونية.
هو مزيج يقوم على هواجس خوف على أوطان مع بوارق أمل من شعوب. فما يحدث داخل أوطان الأمة العربية من مشرقها إلى مغربها، وفي عمقها الإفريقي، هو دلالةٌ هامّة على نوع وحجم القضايا التي عصفت لعقودٍ طويلة، وما تزال، بالأرض العربية. وهي كلّها تؤكّد الترابط الحاصل بين الأوضاع الداخلية وبين التدخّلات الخارجية، بين الهموم الاجتماعية والاقتصادية وبين فساد الحكومات السياسية، بين الضعف الداخلي الوطني وبين بعض المصالح الأجنبية في هدم وحدة الأوطان.
إضافةً لذلك كلّه، يتواصل المشروع الإسرائيلي الساعي لتفتيت ما هو مقسّمٌ أصلاً عربياً، كما حصل في السودان، وكما جرت محاولات إسرائيلية في لبنان والعراق لإقامة دويلات دينية وإثنية تبرّر وجود “الدولة اليهودية” التي ستتحكّم في مصائر هذه الدويلات وترث “النظام العربي المريض” كما ورثت اتفاقيةُ (سايكس/البريطاني وبيكو/الفرنسي) مطلع القرن الماضي “النظامَ التركيَّ المريض”.
إنّ المنطقة العربية تعيش الآن مرحلة سقوط “النظام العربي الرسمي المريض” في ظلّ تضاعف الاهتمام الدولي بموقع المنطقة وثرواتها، وبوجود تأثير كبير لـ”دولة إسرائيل” على أحداثها وعلى القوة الدولية الأعظم في هذه الحقبة الزمنية. هي مرحلةٌ لا يمكن الدفاع فيها عن واقع حال “النظام العربي الرسمي المريض” أو القبول باستمرار هذا الحال، لكن التغيير المنشود ليس مسألة أهداف وشعارات فقط، بل هو أيضاً ممارسات وأساليب وتمييز دقيق في المراحل والأجندات والأولويات والصداقات.
لقد كان المشروع الأميركي للمنطقة خلال حقبة بوش و”المحافظين الجدد” يقوم على فرض حروب و”فوضى خلاّقة” و”شرق أوسطي جديد”، وعلى الدعوة لديمقراطيات “فدرالية” تُقسّم الوطن الواحد ثم تعيد تركيبته على شكلٍ “فدرالي” يحفظ حال التقسيم والضعف للوطن ويضمن استمرار الهيمنة والسيطرة على ثرواته ومقدّراته وقرارته. وكانت نماذج هذا المشروع في العراق وفي السودان معاً. ولا يهمّ الحاكم الأميركي الآن إلا المصالح الأميركية، فهو قد يكون مع تغيير أشخاص وحكومات في بلدٍ ما، ولا يكون كذلك في بلدان أخرى. الأمر يتوقّف طبعاً على “ظروف” هذا البلد ونوع العلاقة الأميركية مع المؤسسات القائمة فيه بما فيها المؤسسة العسكرية، لكن الاعتبار الأميركي الأهم هو “نوع” البدائل الممكنة لهذا النظام أو ذاك.
أيضاً، فإنّ ما يحدث الآن في عموم أرض العرب، هو تعبيرٌ ليس فقط عن خطايا حكومات وأنظمة (تبرّر آحادية مقولة “الثورات”) أو عن تدخّل خارجي (يُبرّر مقولة “المؤامرة” وحدها)، بل هو أيضاً مرآةٌ تعكس الفهم الشعبي العربي الخاطئ للدين وللهويتين العربية والوطنية، ولمدى خلط بعض المعارضات بين مواجهة الحكومات وبين هدم الكيانات الوطنية، ولسقوط بعض المعارضين والمفكّرين في وحل وهُوّة التفكير الطائفي والمذهبي، أو في مستنقع “الدعم الأجنبي”.
فأسلوب التغيير الداخلي، المنشود في عدّة بلدان عربية، لا يجب أن يخرج عن رفض استخدام العنف المسلّح مهما كانت الأعذار والظروف، وعلى المضطلعين بالتغيير أن يحرصوا أيضاً على استقلالية التحرّك الشعبي عن أيِّ جهةٍ خارجية، وعلى التمييز بين صوابيّة هدف الضغط على النظام وبين خطيئة تحطيم الدولة، فما زال هاجس “التغيير الجغرافي” في البلدان العربية أشدّ حضوراً من أمل “التغيير السياسي”. وطالما أنّ الانقلابات العسكرية الداخلية من أجل تغيير الحكومات هي الآن صعبة، وهي أسلوبٌ مرفوض حالياً في العالم ككلّ، فأيُّ نظامٍ ديمقراطي يمكن أن يستتبَّ حصيلة فوضى حروبٍ أهلية أو تدخّلٍ عسكريٍّ خارجي؟.
طبعاً ليست الخطط والمشاريع الإسرائيلية والأجنبية بمثابّة “قضاء وقدر”، فقد كان هناك في العقود الماضية مشاريع كثيرة جرى في أكثر من مكان وزمان إحباطها ومقاومتها، لكن ما يحدث الآن يختلف في ظروفه عن المرحلة الماضية. وربّما المشكلة الأكبر حالياً هي في وجود “مشاريع” أميركية وأوروبية وروسية وصينية وإسرائيلية وتركية وإيرانية للتعامل مع متغيّرات المنطقة العربية أو لتوظيف حركة “الشارع العربي” لصالح أجندات غير عربية، لكن في ظلّ غيابٍ تام لأي “مشروع عربي” يُحافظ على وحدة أوطان هذه الأمَّة وعلى مصالحها، ويحفظ استقلال إرادتها وقرارها. بل المؤسف أكثر من ذلك أن ليس هناك أيضاً “مشروع وطني توحيدي” في الأوطان العربية التي انتصرت فيها الثورات، فكيف بتلك التي ما زالت تنتفض وتنتظر؟!
Leave a Reply