يرى الفنان جهاد مفلح، مدير فرقة “إنانا” السورية للرقص المسرحي، أن فن رقص الباليه الأوروبي، هو فولكلور محلي تم تطويره خلال الـ400 عام الماضية، وذلك عبر تنقيته من الحركات العشوائية وتنظيمه في حركات منسقة. ويؤكد مفلح أن باليه “بحيرة البجع” أو باليه “الأميرة النائمة” (تشايكوفسكي) هي عبارة عن رقصات تنتمي إلى الفلوكلورين البولوني والإسباني.
ويدين مفلح تأخر العرب وتقاعسهم عن تطوير الفلوكلور الشرقي، وتنقيته وتنظيفه واستخلاص آلية الحركات الجوهرية فيه، وإدراجها في نظام مناسب.
ولعل من شاهد العرض المذهل “جوليا دومنا” الذي قدمته فرقة إنانا السورية على مسرح “ماكس فيشر” مساء الثلاثاء الماضي، بحضور لافت ومميز للجالية العربية التي تقاطرت من عدة مدن لمشاهدة العرض المسرحي الراقص “جوليا دومنا”، لعل من شاهد ذلك العرض يدرك بشكل واضح أن الفنان جهاد مفلح يقود الفرقة بروح حساسة ورؤية ثاقبة تعمل على استخلاص “الباليه” من الرقص الشرقي الشعبي، بكل أنواعه، بما ذلك الرقص البلدي وفنون الدبكة.
ولهذا يبدو مفهوماً أن تضم الفرقة بالإضافة إلى المدربين والخبراء الأجانب، ومنهم الراقصة أليينا بيلوفا، خبراء في الرقص الشعبي السوري، ولكن يبقى الأهم هو توفر تلك البصيرة الفنية الثاقبة والفهم الفني لطبيعة الرقص ومسرحته، وروي الحكاية، من خلال تشكيلات راقصة قادرة على إثارة البهجة لدى المتفرج وبث الروعة في قلبه، والقدرة على إدهاشه، من دون أن تنزلق التصميمات إلى إغواء الثراء البصري وبهرجته التي قد تضر بتفاصيل الحكاية.
العرض كان متماسكاً، شكلاً ومضموناً، في الأمسية التي خلقت مناخاً شبه أسطوري، وبيئة جليلة تتمتع بكل مواصفات المهابة والاحتراف، ألأمر الذي دفع الحضور إلى التصفيق مرات متتالية قبل انتهاء العرض وخلال عرض اللوحات والمشاهد الراقصة.
في المضمون، تنبني حكاية المسرحية الراقصة على قصة الفتاة السورية “جوليا دومنا” ابنة الكاهن الأعظم يوليوس باسيان لمعبد الإله إل اجبل في حمص، وفي الامبراطورية الرومانية. تزوجت جوليا من القائد سيبتيموس سيفيروس قائد الفرقة الرابعة الرومانية السورية في العام 187 م، الذي أصبح بعد بضعة سنين قيصر روما، ونالت جوليا لقب المعظمة (أوغستا).
بعد مقتل القيصر الزوج، دب الخلاف بين ابنيه على خلافة العرش وانتهى بمقتل الإبن كيتا، وسيادة الشقيق الامبراطور كركلا. وفي تلك الأثناء كانت الأم (جوليا دومنا) هي المسؤولة عن شؤون الامبراطورية الرومانية من الناحية الإدارية في حين كان تركيز الابن كركلا على الحروب والمعارك وحماية حدود الامبراطورية.
ولم يفت العرض المسرحي أن يلقي الضوء على اهتمام جوليا بالآداب والفلسفة من خلال عقد حلقات للأدباء والفلاسفة في قصرها.
في الشكل الفني، تنوعت اللوحات الراقصة، من حيث التصميم والتكنيك، ونجحت معظم التشكيلات الحركية، الثرية بصريا، في إيصال الفكرة المرادة، مع تحقيق النشوة الفنية المطلوبة.
ولم يحل تعدد الفقرات الراقصة دون غياب الحبكة الدرامية، التي شهدت عدة ذرا فرعية، زادت الحكاية متعة وتشويقاً، وأنقذت المتفرج من أية لحظات ملل أو خروج عن تأثيرات القص الراقص.
وكانت الموسيقى مميزة أيضاً، فقد تآلفت النغمات الإيقاعية، الضابطة لحركات الراقصين الجماعية، مع الخلفيات التعبيرية، التي شحنت التكوينات البصرية بالطاقة والخيال المطلوبين، لملامسة وجذب عاطفة المشاهدين.
كما كان لافتا أداء الراقصين، سواء من حيث الأداء الفردي، أو من حيث التناغم والاتسقاء أثناء التكوينات الجماعية.
في المجمل، حولت فرقة إنانا مساء الثلاثاء الماضي، من مجرد مساء عادي، إلى مساء اسطوري، يستحضر أيقونة تاريخية، امرأة سورية وصلت إلى سدة العرش في روما الرومانية، في تأكيد على الرسالة المصاحبة التي يريد العمل تأكيدها في أحد مستوياته الإضافية، ألا وهو الإضاءة على امكانات المرأة العربية ومكانتها.
ولذلك يمكن القول إن “المتحف العربي الأميركي” يستحق الشكر على هذه المبادرة، بدعوته ورعايته لهذا الحدث الفني الضخم.
Leave a Reply