وصل الحوار البعيد عن الاضواء بين القوات اللبنانية وتيار المردة إلى مرحلة حاسمة، قد تمهد لإنجاز المصالحة والإعلان عنها رسمياً في وقت قريب، وصولاً إلى عقد لقاء مباشر بين سليمان فرنجية وسمير جعجع، مع ما سيتركه هذا التطور من انعكاسات مباشرة على الساحة المسيحية وتوازنات القوى فيها.
ومصالحة «القوات» و«المردة»، إذا اكتملت، ستشكل حدثاً نوعياً في الوسط المسيحي، باعتبار أن قطيعة حادة كانت تسود بين الجانبين خلال عشرات السنوات، ربطا بتاريخ دموي تحكم بعلاقتهما، خصوصا بعد مجزرة اهدن الشهيرة التي رُبطت بجعجع وأدت إلى استشهاد والدي سليمان فرنجية وشقيقته، الامر الذي انتج حالة من العداء المستحكم والحقد المتبادل على امتداد عقود من الزمن.
ومن هنا، يمكن القول إن مصالحة «القوات»–«المردة» ستنطوي بالدرجة الأولى على تضحية كبرى من فرنجية الذي كان قد أبدى الاستعداد للصفح عن مرتكبي جريمة إهدن، برغم أنه كان ضحيتها الأساسية بعدما فقد أهله، وذلك بغية طي صفحة الحرب كلياً والتوقف عن الدوران في دوامة الانتقام والثأر، في بيئة شمالية معروفة بحساسيتها وتقاليدها.
بعد هذا الموقف الأخلاقي لفرنجية فُتحت أبواب التواصل بين «القوات» و«المردة»، منذ عامين تقريباً، تحت سقف التنسيق على الأرض ومنع الصدامات بين محازبي الطرفين في مناطق النفوذ المشترك. ثم ما لبث النزاع الميداني أن تطور شيئاً فشيئاً إلى حوار سياسي، بدا منذ لحظاته الأولى أن هدفه الواقعي لا يتجاوز سقف طي صفحة الماضي المأساوي من جهة وتنظيم الخلاف حول القضايا والخيارات الكبرى من جهة أخرى.
اختلاف جذري
يعلم جعجع وفرنجية أن ما يفرقهما في السياسة هو عميق ومعقد إلى درجة أنه يستحيل لأي حوار أن يجمعه في الوقت الحاضر، مهما كانت النيات حسنة وصافية.
يختلف الرجلان بشكل جذري حول كيفية مقاربة ملف سلاح المقاومة، والنظرة إلى العلاقة مع سوريا، وطبيعة تموضع لبنان الإقليمي، إذ أن فرنجية هو حليف استراتيجي لـ«حزب الله» وسلاحه، وصديق حقيقي للرئيس بشار الأسد ونظامه، ومقتنع بأن موقع لبنان هو ضمن محور الممانعة، في حين يقف جعجع على الضفة الأخرى لهذه الخيارات.
وعليه، ليست هناك من إمكانية عملية لتدوير الزوايا الحادة وردم الهوة الواسعة في ظل هذا التعارض على مستوى اصطفاف الرجلين وخياراتهما الاستراتيجية، وكل ما يمكن تحقيقه في هذا الجانب تحديداً هو التعايش مع الرأي الآخر وتقبله، بدل الاشتباك معه والاصطدام به.
بمواجهة «التيار»
لكن في المقابل، هناك ما يحفّز الرجلين على التقارب ويعوض عما يفرقهما. لا يتعلق الأمر فقط بالرغبة في التحرر من وطأة الماضي، وإنما مصيبة الخلاف مع «التيار الوطني الحر» جمعتهما أيضاً. لقد جرّب كل من فرنجية وجعجع التفاهم مع «التيار» ورئيسه جبران باسيل، إلا أن أملهما خاب في التجربة وعادا منها بانطباعات سلبية، وبالتالي فهما يفترضان أن تقاربهما سيقوي موقعيهما في مواجهة «التيار» وسيساهم في تحقيق نوع من التوازن معه، رداً على ما يعتقدان أنها محاولة لتحجيمهما أو عزلهما من قبل باسيل.
وإلى جانب هذا العامل، يتطلع كل من فرنجية وجعجع إلى تحسين شروطه في المعركة الرئاسية مستقبلاً، ومن شأن ترميم العلاقة بينهما أن يصب في هذا الاتجاه، بحيث يصبح الواحد منهما مقبولاً لدى الآخر في الحد الأدنى، خلافاً لما كان عليه الوضع حين رشح فرنجية نفسه إلى الرئاسة، إذ بادر جعجع يومها إلى دعم ترشيح العماد ميشال عون نكاية بفرنجية، ولمنع وصوله إلى قصر بعبدا، وليس حباً بعون واقتناعاً به، والسبب أن خصومة جعجع مع فرنجية كانت لا تزال على أشدها في تلك المرحلة.
على نار هادئة
تلفت أوساط سياسية مطلعة على مسار مفاوضات «القوات»–«المردة» إلى أن الأمور نضجت على نار هادئة، من دون حرق المراحل، محذرة في الوقت ذاته من الإفراط في التوقعات ورفع سقفها إلى ما فوق الواقع الموضوعي، ومشددة على أن الإنجاز الأهم الذي يجري التحضير له هو الخروج من أسر الماضي الدموي كلياً وفتح صفحة جديدة، أما الخلاف السياسي فسيستمر ولا يجب أن يظن احد أنه سينتهي بمجرد حصول المصالحة بين جعجع وفرنجية، ولكن الأكيد أنه سيجري تنظيمه وتهذيبه، بحيث لا يخرج عن الإطار الديمقراطي.
وتشدد الأوساط على أن جعجع وفرنجية سيبقيان ضمن تموضعهمما السياسي الحالي ولن يغادر أي منهما موقعه، إنما مع الانتظام ضمن اللعبة السياسية التقليدية التي تحتمل التقاطع أو التباين، تبعاً للملف المطروح.
وتشير الأوساط كذلك إلى أن أهم ما ستحققه مصالحة جعجع–فرنجية، هو التوقف عن إصدار الأحكام المسبقة بحق الآخر، واحترام خصوصيته، واعتماد الوسائل السلمية في الاختلاف، واحتواء مفاعيل التاريخ الموجع، مؤكدة أن الاتفاق المتوقع لن يكون بتاتاً شبيهاً بتفاهم معراب بين «التيار» و«القوات»، ولن ينطوي على أي محاصصة أو نزعة سلطوية.
وتوضح الأوساط أن الشكل أو الإخراج النهائي للمصالحة المفترضة لم يُحسم بعد، مستبعدة أن يكون لقاء فرنجية–جعجع قريباً جداً، «ولكن الأمور تتحرك في الاتجاه الصحيح والنهاية السعيدة».
Leave a Reply