كمال ذبيان – «صدى الوطن»
أوصت لجنة الأمن والدفاع في مجلس النواب الفرنسي، بإرسال قوات دولية إلى لبنان بشكل طارئ تحت سلطة الأمم المتحدة والبنك الدولي في سبيل تعزيز الأعمال الإنسانية، ومساعدة اللبنانيين ودعم الجيش اللبناني والقوى الأمنية لحفظ الأمن والاستقرار، وهي خطوة تكشف عن التوجه الفرنسي الجديد حيال لبنان، بأخذه نحو انتداب جديد، له أبعاد سياسية خطيرة بذرائع إنسانية واقتصادية، وذلك كله تحت عنوان منع سقوط الدولة.
النفوذ الفرنسي
ليس غريباً تدخّل باريس في لبنان، الذي وقع تحت الاحتلال الفرنسي بموجب معاهدة سايكس–بيكو عام 1916، والتي عقدت مع البريطانيين لتقاسم المشرق العربي عقب انهيار السلطنة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى.
العراق والأردن وفلسطين كانت حصة بريطانيا، أما فرنسا فكان لها سوريا ولبنان الذي أنشئ بقرار من الجنرال غورو في الأول من أيلول عام 1920.
كان المراد من هذه الدولة أن تكون نقطة ارتكاز ووصل لباريس في المنطقة، لاسيما وأن لبنان –عدا عن أنه يضم كان يتمتع بمؤهلات تربوية وعلمية وثقافية تفوق معظم المناطق الأخرى التي كانت تابعة للدولة العثمانية، وذلك بدخول الجامعات إليه في وقت مبكر نسبياً من خلال جمعيات تبشيرية، كـ«الجامعة الأميركية في بيروت» التي بنتها الكنيسة الإنجيلية، و«الجامعة اليسوعية» للكنيسة الكاثوليكية. عدا عن ذلك شكلت الديموغرافيا المتنوعة دينياً في لبنان ومحيطه، عاملاً أساسياً في ولادة «لبنان الكبير» بشكله الحالي ودوره الذي أرادته باريس بالتوافق مع الكنيسة المارونية التابعة للكنيسة الكاثوليكية.
وإذا كان الوجود العسكري في لبنان لم يدم طويلاً فإن نفوذ باريس لم يغب يوماً عن بلاد الأرز، حتى لو نافسته قوى دولية أخرى، مثل بريطانيا التي لعبت دوراً محورياً في وصول الكتلة الدستورية برئاسة بشارة الخوري إلى الحكم بعد الاستقلال، على حساب رئيس الجمهورية في زمن الانتداب، إميل إدّه، الذي كان يرأس حزب «الكتلة الوطنية» الموالي لفرنسا.
وعلى مدى العقود اللاحقة، وحتى يومنا هذا، لم يغب النفوذ الفرنسي عن لبنان قط، وإن انحسر أحياناً لصالح قوى إقليمية وعالمية أخرى.
ولعل عودة فرنسا بقوة إلى الساحة اللبنانية المأزومة اليوم، أكبر دليل على استمرار نفوذ باريس ومصالحها في بلاد الأرز التي تعيش هذه الأيام أزمة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة منذ ولادة الكيان الذي كان من المفترض أن يكون ساحة لتلاقي الشرق والغرب، لكنه تحول إلى ساحة صراع في لعبة المحاور الدولية.
فشل مبادرة ماكرون
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زار قبل عام، لبنان، لمؤازرته بمواجهة النكبة التي أصابته إثر انفجار مرفأ بيروت أواسط صيف 2020، وقدّم حينها «مبادرة إنقاذية» تشترط تشكيل حكومة اختصاصيين تكون مهمتها وقف الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي.
لكن حسابات ماكرون لم تنطبق على بيادر السياسة اللبنانية، فتعثرت المبادرة الفرنسية وسقطت، رغم إعلان مختلف القوى السياسية عن دعمها في البداية، وهو ما دفع المسؤولين الفرنسيين إلى اتهام الطبقة الحاكمة بالفساد وتهديم لبنان، فيما ظهرت تهديدات أوروبية بفرض عقوبات محتملة على المسؤولين في أحزاب السلطة لعجزهم عن تشكيل حكومة إنقاذ رغم مرور سنة كاملة تقريباً على استقالة حكومة حسان دياب، واستمرار التدهور على كافة الصعد، بحيث وصل سعر صرف الليرة أمام الدولار، إلى أكثر من عشرين ألف ليرة بالتزامن مع اعتذار سعد الحريري عن تأليف الحكومة، بينما يتوقع خبراء اقتصاديون، أن لا يكون لهذا التدهور سقف، وقد جرى التنبيه إلى ذلك منذ سنوات، بأن الليرة ستنهار، ولن تكون «بألف خير» كما كان يصفها حاكم «مصرف لبنان»، رياض سلامة.
دعوات دولية
والتوجه الفرنسي، نحو مشاركة المجتمع الدولي في مساعدة لبنان، من الباب الإنساني، والأمني بدعم الجيش اللبناني والقوى الأمنية، ظهر في أكثر من مؤتمر دعت إليه باريس، وعقد لهذه الغاية مؤتمران الأول في باريس والثاني في بروكسيل، وسيعقد مؤتمر ثالث في 20 من الشهر الحالي في العاصمة الفرنسية، لمساعدة لبنان.
إذ جرى تقديم نحو 500 مليون يورو كمساعدات إنسانية وعمرانية، للمتضررين من انفجار مرفأ بيروت، وخصّص مؤتمر لدعم الجيش، الذي تعطيه فرنسا أهمية خاصة، كونه المؤسسة الوحيدة التي مازالت متماسكة، ويقع عليها حفظ الأمن، فاستُقبل قائد الجيش العماد جوزف عون، في باريس استقبالاً رسمياً، والتقاه الرئيس ماكرون، في إشارة لا تخلو من الدلالات على دعم فرنسا للجيش، الذي إذا انفرط، سقطت الدولة نهائياً.
وقد سبق لوزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، أن حذّر من أن دولة لبنان إلى زوال، وقد تتحول قريباً إلى دولة فاشلة، ولما لم تلقَ باريس تجاوباً من الأفرقاء اللبنانيين لجأت إلى دول أخرى لبحث اقتراح التدخل الدولي المباشر لـ«إنقاذ لبنان» من السقوط الذي ستكون لارتداداته انعكاسات سلبية على أمن اللبنانيين وسلمهم الأهلي.
تحرّك ثلاثي
وأمام تأزم المشهد اللبناني، حصل تحرّك أميركي–فرنسي لمنع الانهيار المتوقع للدولة، فالتقى وزيرا خارجية واشنطن وباريس لتباحث وضع لبنان الذي كان حاضراً في اتصالات الرئيس الأميركي جو بايدن ونظيره الفرنسي، الذي نال تأييد واشنطن لمبادرته، التي يحاول ترجمتها عبر الأمم المتحدة، بعد نيل الرضى الأميركي. كما جرى توجه فرنسي نحو السعودية، التي أعطت بدورها وزير خارجيتها فيصل بن فرحان توجيهات بأن يلتقي في إيطاليا، الوزيرين الأميركي والفرنسي.
حصل اللقاء الثلاثي، وجرى الاتفاق على مساعدة لبنان كي لا تسقط دولته، وأن الجيش هو العامود الذي يجب دعمه، لبقاء لبنان. وقد ترجمت فرنسا سياستها، بزيارة قام بها لودريان إلى الرياض، حث من خلالها القيادة السعودية على العودة إلى لبنان، وعدم التخلي عنه لصالح إيران التي توسع نفوذها في المنطقة، مع التعويل على إجراء الانتخابات النيابية في موعدها العام القادم، لإجراء تغيير في التوازنات السياسية الحالية التي لا تصب في صالح التحالف الغربي–الخليجي.
القرار 1559
ليست المرة الأولى التي تحاول فرنسا أن تجمع حولها، مَن يدعم توجّهها السياسي في لبنان، إذ سبق للرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، أن لبّى طلب الرئيس رفيق الحريري، بأن تنسحب القوات السورية من لبنان، والذي طالب به البطريرك نصرالله صفير مع نزع سلاح الميليشيات وتحديداً «حزب الله» الذي يرمز إلى المقاومة، فحصل توافق أميركي–فرنسي، بين الرئيس جورج بوش الابن وشيراك، على استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يدعو إلى انسحاب القوات السورية، وتسليم سلاح الميليشيات، ورفض تعديل الدستور للتمديد لرئيس الجمهورية إميل لحود، الذي كان ينال دعم الرئيس السوري بشار الأسد
انعقدت قمة «النورماندي» بين بوش وشيراك في حزيران 2004، واتفقا على أن يقدما إلى مجلس الأمن صيغة القرار 1559، الذي صدر عن مجلس الأمن في 2 أيلول 2004، وقبل يومين من جلسة التمديد للرئيس لحود. وقد اعتبر القرار حينها بمثابة إعلان حرب مباشرة على لبنان، وهو ما نفّذتها إسرائيل في تموز 2006، للتخلص من المقاومة وسلاحها، بعد انسحاب القوات السورية من لبنان، إثر اغتيال الحريري، الذي ساهم مع وليد جنبلاط والبطريرك صفير، بإنشاء جبهة سياسية تطالب بتنفيذ القرار 1559، في ما عرف بـ«لقاء قرنة شهوان»، الذي رعته الكنيسة المارونية، ليتوسّع لاحقاً إلى «لقاء البريستول» الذي تشكل بموجبه تحالف «14 آذار» عام 2005.
قرار دولي جديد
وما حصل قبل 17 عاماً، قد يتكرّر اليوم مع توصية لجنة الأمن والدفاع في البرلمان الفرنسي بتدويل الأزمة اللبنانية، مما يهدد بإعادة لبنان إلى أجواء مرحلة ما بعد اندحار الاحتلال الإسرائيلي عام 2000، حين تعالت الأصوات المطالبة بتجريد «حزب الله» من سلاحه وانسحاب القوات السورية.
فباريس اليوم، وتحت عنوان إنساني وأمني، تحاول بالتنسيق مع واشنطن، استصدار قرار عن الأمم المتحدة، يضع لبنان تحت الوصاية الدولية، باعتباره دولة فاشلة وغير قادرة على إدارة شؤونها، على أن يكون التدويل عبر البنك الدولي تحت عنوان مساعدة لبنان على النهوض الاقتصادي.
إذن، من الباب الإنساني، سيعود لبنان إلى زمن الانتداب عبر قوات دولية، هي موجودة أصلاً على أرضه منذ أول اجتياح إسرائيلي عام 1978، عندما حضرت قوات «اليونيفيل» وبقيت لأكثر من عقدين دون أن تأبه يوماً لتنفيذ القرار الأممي رقم 425 أو تساعد الجيش اللبناني في استعادة الأرض المحتلة، التي أقامت فيها إسرائيل، «حزاماً أمنياً» وأنشأت جيشاً عميلاً وتمددت حتى بيروت عام 1982، قبل أن تدحرها المقاومة بقوة السلاح.
هي محاولة أميركية–فرنسية مدعومة سعودياً، لاستصدار قرار جديد مستنسخ عن القرار 1559، لإعادة لبنان إلى الفتنة، لكن هذه من باب الإنقاذ الاقتصادي بالتدويل، الذي قد يكون تحت الفصل السابع.
Leave a Reply