كمال ذبيان – «صدى الوطن»
لم يكن قد مضى على زيارة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند الى لبنان، نحو ثلاثة أشهر، حتى حل وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرولت ضيفاً على لبنان في الذكرى العاشرة للعدوان الإسرائيلي على لبنان حيث تشارك قوة فرنسية من حوالي 1800 عنصر في القوات الدولية لتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الذي أوقف إطلاق النار بين القوات الإسرائيلية والمقاومة، دون أن ينهي الأعمال العسكرية، التي لم تتراجع عنها إسرائيل، باغتيال قيادات وأعضاء في المقاومة، التي تقوم بالرد عليها في الزمان والمكان المناسبين.
غير أن زيارة رئيس الدبلوماسية الفرنسية، لم تحمل معها جديداً، كما زيارة الرئيس الفرنسي، وقبلهما مدير دائرة الشرق الأوسط وإفريقيا في الخارجية الفرنسية جان فرنسوا جيرو الذي كُلّف قبل أكثر من عامين بالملف الرئاسي اللبناني، ولم تظهر معه نتائج إيجابية، إذ زار بيروت وطهران والرياض والفاتيكان وعواصم أخرى، وبقي الإستحقاق الرئاسي اللبناني يراوح مكانه، فإنقطع جيرو عن إكمال مهمته، بعد أن لمس أن الأطراف اللبنانية غير متفقة، ومنها القوى المسيحية، كما أن القوى السياسية أيضاً تتبادل الإتهامات حول تعطيل إجراء الإنتخابات الرئاسية.
الأم الحنون
ويحتل لبنان أهمية مميزة عند فرنسا التي تحاول كل إداراتها أن تغيب عنه، وهو الدولة الوحيدة الباقية لها في المنطقة التي يحن الى «أمه» التي ولّدت «لبنان الكبير» في العام 1920، وانتدبته نحو 25 عاماً، وأنشأت جمهوريته الأولى، ووضعت له دستوراً (كان أول دستور طائفي في بلاد العرب)، وساهمت في تأسيس وإقامة صروح تربوية ارتبطت باللغة الفرنسية، فأصبح لبنان دولة من دول الفرنكوفونية في العالم.
ولأن حنين الأم الى ولدها، كما كان المسيحيون يصفون فرنسا بالنسبة إليهم، لاسيما منهم الموارنة الذين، أنشأت لهم دولة كانوا يريدونها في جبل لبنان، فضمت الأقضية الأربعة إليها، وأصبحت «دولة لبنان الكبير» التي ورثها البريطانيون في إنتخابات رئاسة الجمهورية عام 1943، وأتوا ببشارة الخوري رئيساً للجمهورية، فإحتجّ الفرنسيون بأن الإنكليز يلعبون في ساحتهم وقد تقاسموا معهم المشرق العربي، فاعتقلوا الخوري، وأركان الدولة، لينصبوا رجلهم إميل إده، إلا أن الإحتجاجات الشعبية واجهتهم، وحصلت صدامات مع القوات الفرنسية، فرضخ المندوب الفرنسي لمطالب اللبنانيين بالإستقلال بعد أن عدّلوا الدستور، بإسقاط عبارات الإنتداب، ليبدأ النفوذ الفرنسي بالتراجع، أمام تقدم الحضور البريطاني، ثم إنكفائه في نهاية الخمسينات لصالح الدور الأميركي الذي ظهر مع أحداث عام 1958 التي ارتبطت بمشروع الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور للشرق الأوسط.
فمنذ العام 1943، والعلاقة اللبنانية–الفرنسية هي علاقة صداقة، إذ لم يعد للسياسة الفرنسية أي دور في لبنان، بعد أن فرضت أميركا نفسها في المنطقة، وزادت من وجودها الحرب الباردة مع القطب العالمي الثاني الإتحاد السوفياتي، وباتت أوروبا الغربية ملحقة بأميركا، وأوروبا الشرقية بالإتحاد السوفياتي، وبدأ صراع دولي بين القطبين، كانت ساحته دول في العالم، وتأثر لبنان به، وظهر في أثناء الحرب الأهلية في العام 1975، والتي تداخلت مع أسباب داخلية وأخرى إقليمية.
دور مفقود
لقد خفّ الحضور الفرنسي في لبنان، وتراجع تأثيره السياسي، إلا من بعض المواقف المتضامنة التي تعلنها فرنسا مع لبنان، مثل إدانة الإعتداء على مطار بيروت عام 1968، ونسف طائرات لطيران الشرق الأوسط على أرضه، فإتّخذ الرئيس الفرنسي آنذاك شارل ديغول موقفاً مستنكراً، ومهاجماً إسرائيل.
فالدعم الذي يلقاه لبنان من فرنسا معنوي أكثر منه مادياً، إذ أن الإستثمارات الفرنسية متدنية فيه، فهو من الدول التي ترغب أن يبقى مستقراً، وصاحب دور ثقافي وحضاري، وجسر تواصل بين الشرق والغرب، لموقعه الجغرافي، ولوجود تنوّع طائفي فيه، فكان التعاطي معه ثقافياً، وأحياناً سياسياً، لكن موقع فرنسا في لبنان ضمُر لصالح الدور الأميركي، الذي بدا الأفعل منذ العام 1958 بمشاركة أطراف أخرى عربية كمصر زمن جمال عبدالناصر، وسوريا في مرحلة الحرب الأهلية، أو إسرائيلية في الحرب على لبنان عام 1982 وغزوه له، وتأمين وصول بشير الجميّل رئيساً للجمهورية.
فمنذ عقود والدور الفرنسي في لبنان مفقود، وهو ما ظهر في إتفاق الطائف الذي كان صناعة أميركية–سعودية، رعت تنفيذه سوريا عبر قواتها المسلحة في لبنان، كما غابت فرنسا عن المشاركة في تسمية رئيس للجمهورية، إلا ما ندر من خلال التشاور معها فقط، وكان آخرها اختيار الرئيس ميشال سليمان وعقدها لمؤتمر سان كلو في العام 2007 للأطراف اللبنانية.
لذلك فعندما تقدمت للدخول الى ملف رئاسة الجمهورية، بعد إنتهاء ولاية الرئيس سليمان، لم تكن الطريق سالكة أمامها، إذ وجدت إيران تقيم محطة على هذا الطريق، وكذلك السعودية، ومحطة إنتظار تقيمها الولايات المتحدة التي سلّمت بدور فرنسي في ملف رئاسة للجمهورية، غير أنه لم يظهر أن لباريس مرشحاً، سوى ما تردد أنها -ومع إطالة الشغور الرئاسي- تداولت مع البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي بفكرة رئاسة لعامين للعماد ميشال عون، وهو اقتراح الراعي، بحسب معلومات دبلوماسية، لكن عون رفض الفكرة، فاستمزجت الإدارة الفرنسية بأسماء موارنة ليسوا من الأقطاب، ومن بينهم زياد بارود، دميانوس قطار، السفير اللبناني في روما العميد جورج خوري، روجيه ديب، وهؤلاء يحظون بتأييد الراعي الذي لم ينجح في تسويقهم حتى الآن، كما برز إسما قائد الجيش جان قهوجي وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وكسياسي مخضرم النائب والوزير السابق جان عبيد، وهو من الأسماء البارزة والدائمة على لوائح الترشيح.
من هنا فإن فرنسا لم تتمكن من العودة الى لبنان من باب رئاسة الجمهورية، وهو مازال موصداً بوجهها، وإن كانت مشاركتها في القوات الدولية في الجنوب، تعطيها دفعاً سياسياً وعسكرياً، إلا أن ما يهمها في هذه المرحلة هو موضوع النازحين السوريين الذي يضغط عليها كما على دول أوروبية من الجانب الأمني، إذ ضرب الإرهاب عدداً من المدن الفرنسية خلال الأعوام الثلاثة، وأن السبب هم اللاجئون السوريون الذين تدعو فرنسا ودول أوروبية أخرى، ومعهم الأمم المتحدة الى وقف تدفقهم الى الخارج، وإبقائهم حيث هم، وتلقي مساعدات على إسمهم، ما يشبه «التوطين المقنّع»، إذ المطلوب من الدول المستضيفة للنازحين السوريين تأمين فرص العمل لهم، وإقامة مساكن لهم، ودمجهم في أماكن إقامتهم، وهو ما يرفضه لبنان الذي قدم له الوزير الفرنسي دعماً بمئة مليون يورو لعامين، لتدبير شؤون النازحين، بعد أن تمّ إرجاء عقد المؤتمر الدولي للمانحين، فكانت زيارة إيرولت تعويضاً عنه، ولإسكات لبنان الذي ليس باستطاعته تحمل عبء مليون ونصف مليون سوري ونصف مليون فلسطيني، تعجز دول كبرى عنهم.
ماذا تريد فرنسا فعلاً؟
الزيارة الفرنسية الى لبنان، لم تكن بمستوى ما جرى الحديث عنها، إذ راهن البعض أن إيرولت سيحمل معه مبادرة رئاسية، وتحدث البعض عن أنه موفد من السعودية للبحث في الملف الرئاسي ليتبيّن أنه حمل معه نصائح أن «يلبنن» الإستحقاق الرئاسي، بإتفاق اللبنانيين فيما بينهم، وهو لا يملك عصا سحرية لتقديم حل لا يمكن فرضه، لأن الأطراف الداخلية لها إرتباطات خارجية، لاسيما مع إيران والسعودية، وطالما أن الدولتين يقوم بينهما نزاع في المنطقة وفي أكثر من دولة، من اليمن الى العراق وسوريا والبحرين، ومعهم لبنان، فإن الحل ليس بيد فرنسا ولا أميركا، ولقد أبلغه الرئيس نبيه برّي، أن حل أزمات لبنان، لاسيما رئاسة الجمهورية التي تتصدّر كل الأزمات، هو في إتفاق سعودي–إيراني، ومن دونه سيبقى الفراغ الرئاسي، وستتعطّل المؤسسات الدستورية.
لقد اكتشف وزير الخارجية الفرنسية، أن دور بلاده المفقود في لبنان منذ عقود، والذي حاول أن يستعيده ففشل، لأن اللاعبين فيه أقوى من أن تتمكّن فرنسا من منافستهم، فلم تعد لها أطراف سياسية مرتبطة بها، كما في أيام انتدابها للبنان، فهذا زمن ولّى، وتتصارع على الساحة اللبنانية أميركا وروسيا، وإيران والسعودية، وهي الدول التي تتعارك في سوريا.
فالزيارة الوزارية بعد الرئاسية الفرنسية، هي للبحث عن دور قديم، قد يكون النفط المكتشف في البحر، وللبنان حصة فيه، وهو مَن سرّع الحضور الدبلوماسي الفرنسي، علّه يحجز لشركات فرنسية حصة في التنقيب عنه.
Leave a Reply