كمال ذبيان – «صدى الوطن»
أسابيع قليلة، هي المهلة التي تفصل بين الانفراج والانفجار في لبنان، وهو ما دفع مسؤولين وقيادات سياسية وحزبية وروحية إلى دق ناقوس الخطر من ضيق الوقت المتبقي قبل أن تغرق السفينة بركابها، بزوال الدولة.
تبدو الصورة سوداويةً للغاية مع غياب أي أمل في الأفق، منذ المبادرة الفرنسية التي طرحها الرئيس إيمانويل ماكرون قبل نحو ثمانية أشهر، ولم يعد متحمساً لها، بعد أن لمس تعقيدات الأزمة وتعرف عن كثب على قدرة السياسيين اللبنانيين في التملص ونكث العهود، حتى أصبحت الساحة اليوم خالية من أي تحرّك داخلي وخارجي لتقديم حلول للأزمة السياسية–الدستورية التي تحول دون إخراج البلاد من أزمتها الاقتصادية والمالية الخانقة.
لا حكومة قريباً
ولادة حكومة جديدة برئاسة سعد الحريري تبدو متعثّرة في ظل الخلاف حول صلاحيات التأليف، وسط شروط وشروط مضادة. إذ يصرّ رئيس الجمهورية ميشال عون، أن يكون شريكاً فاعلاً في تأليف الحكومة تحت شعار «الرئيس القوي» عبر التمسك بما تبقى من صلاحيات رئاسة الجمهورية بعد دستور الطائف الذي يفسره الحريري و«نادي رؤساء الحكومات السابقين» بطريقة مختلفة.
وما حصل، أن الرئيس عون رفض التشكيلة الوزارية التي قدمها الحريري في ديسمبر الماضي. ومنذ ذلك الحين يتمسك الرئيس المكلّف بتشكيلته في موقف متصلب تجاه أي تنازل عن الصلاحيات الدستورية لرئيس الوزراء، تحت شعار عدم التنازل أمام عون وتياره السياسي، كما فعل في «التسوية الرئاسية» التي أسقطها الطرفان، ولم يعد أي منهما راغباً في إحيائها، أو التعاون تحت سقفها.
فالحريري لم يعد مرغوباً به من قبل عون، الذي ذهب إلى حد التحذير من عودته إلى السراي الحكومي، كما امتنع نواب «التيار الوطني الحر» عن تسميته، قبل أن تزداد الأزمة تعقيداً مع تشدّد الحريري في رفض اللقاء مع رئيس «تكتل لبنان القوي»، جبران باسيل، واصرار رئيس الجمهورية على ذلك، أسوة باجتماعاته مع سائر الكتل النيابية الأخرى.
كذلك لم يقدم الرئيس المكلف في تشكيلته الوزارية المقترحة، أسماء مسيحييين يحظون بقبول عون الذي يريد أن يكون له دور في تسمية الوزراء المسيحيين، وقد قدم إلى الحريري لائحة تضم حوالي 70 شخصاً لكن الحريري لم يختر أياً منهم.
التشاؤم سيد الموقف
في ظل انسداد أفق الحلول الداخلية، بالرغم من مبادرة أكثر من طرف لحلحلة العقد بين عون والحريري، ومع تراجع الاهتمام الدولي ببلاد الأرز والاكتفاء بتقديم النصح له، يزداد التشاؤم حيال إمكانية تشكيل حكومة في الوقت القريب، إلا إذا حدث تطور ما سياسي أو أمني، يعيد خلط الأوراق ويفرض ولادة حكومة جديدة.
ويشي السجال الإعلامي بين الجهتين المعنيتين في التأليف، وتبادل المواقف الاستفزازية لإحراج كل منهما الآخر لإخراجه، بأن الأزمة ستطول بين بعبدا وبيت الوسط. إذ أعلن الرئيس عون أكثر من مرة، بأن على الحريري أن يعتذر عن تشكيل الحكومة، فيما ردّ الأخير بدعوة رئيس الجمهورية إلى الاستقالة، حتى بات الطرفان في موقع المواجهة المباشرة وفقدان الثقة، وهو ما اضطر عون إلى القول، بأن الحريري لم يعد الشخص الذي كان يعرفه مشيراً إلى أنه أصبح «غريب الأطوار»، فردّ عليه الحريري، بأن «الرسالة وصلت والله يعين اللبنانيين».
هكذا انقطع التواصل بين الجانبين، وسقطت معه مبادرات الحل، حيث حاول كل من وليد جنبلاط، الدفع نحو تسوية برفع عدد الوزراء دون ثلث ضامن، ومثله سعى الرئيس نبيه برّي الذي تواصل مع الطرفين دون التوصل إلى نتيجة إيجابية. كذلك، سبق ولم يوفق كل من البطريرك بشارة الراعي، واللواء عباس إبراهيم في إحراز أي تقدم بين القصر الجمهوري وبيت الوسط، وتقريب وجهات النظر. كل هذا جعل اللبنانيين أكثر تشاؤماً في ظل أوضاع اقتصادية ومالية واجتماعية تزداد قتامة يوماً بعد آخر، وسط مخاوف من انهيار قدرة الدولة على دعم السلع الأساسية في البلاد في غضون شهرين أو ثلاثة مما ينذر بانفجار الشارع رغماً عن كورونا.
التسوية مؤجلة
يبدو أن التسوية التي يرجوها اللبنانيون، مؤجلة إلى ميقات غير معلوم، تحدّده ساعة التطورات الإقليمية والدولية. فقد اعترفت القوى السياسية بعجزها عن «لبننة الحل»، الذي لطالما كان صناعة خارجية منذ نشأة لبنان قبل قرن من الزمن، مروراً باستقلال 1943، واقتتال 1958 وحرب 1975، وصولاً إلى تسوية الطائف الإقليمية الدولية التي عاش في ظلها اللبنانيون فترة من السلم الأهلي تحت الوصاية السورية إلى حين اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي أدخل البلاد في أزمة جديدة أوصلت إلى اتفاق الدوحة عام 2008 ولا تزال مفاعيلها قائمة منذ ذلك الحين.
وكما كانت أزمات لبنان دائماً تقع بفعل عوامل دولية وإقليمية مستندة إلى أسباب لبنانية، فإن التسويات كانت أيضاً تأتي من الخارج، ولذلك تبدو التسوية هذه المرة مؤجلة في لبنان، ليس فقط بسبب الغموض الذي يكتنف مصير المنطقة والعالم، بل أيضاً لفشل الأطراف الداخليين في التقارب رغم الأزمة الخانقة التي تمر بها البلاد.
وبينما سعى أكثر من طرف إلى محاولة فكّ الارتباط بين الأزمة الداخلية والخارج، باءت تلك المحاولات بالفشل، مما اضطر جنبلاط إلى الإشارة، بأن للسفارات دوراً في تأجيج الصراع الداخلي، إضافة إلى قوله أيضاً، بأنه لم يلمس من السفراء الذين يلتقيهم، الحماس لاستعجال الحل في لبنان، وأن فرنسا تتعاطى مع لبنان عاطفياً، لأنها أسست دولته، التي نعاها وزير الخارجية الفرنسية جان إيڤ لودريان، بقوله المتكرّر بأن لبنان دولة فاشلة وإلى زوال، محمّلاً المسؤولين اللبنانيين نتائج انهيار لبنان، وما وصل إليه شعبه من جوع وفقر وبطالة.
وهذا ما توافق عليه قادة الاتحاد الأوروبي، الذي كان لبنان على جدول اجتماعهم، لكنهم اكتفوا بإعلان زيادة الضغط على القيادات في لبنان للإسراع في تشكيل الحكومة دون استبعاد فرض عقوبات أوروبية على مسؤولين وقوى سياسية، كأداة ضغط، بعد استنفاد ضغوطها لانتشال لبنان من الهوة التي وقع فيها من خلال تشكيل حكومة من خارج الطبقة السياسية الحاكمة، كما طالب الرئيس الفرنسي وتمنى على الكتل النيابية التي التقاها، أن تمضي بمبادرته التي نالت دعم الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة جو بايدن، على أن تتولى شخصيات من المجتمع المدني السلطة في لبنان، بعد التجربة الفاشلة لحكامه.
الغرق المحتوم
مع تأخر التسوية في لبنان، تزداد الأزمة تعقيداً، فقد دخلت البلاد، الأسبوع الماضي، في الظلمة مع توقف معامل إنتاج الكهرباء مما استدعى إقرار سلفة مما تبقى من أموال المودعين في المصارف، في حين واصلت أسعار المواد الغذائية صعودها مع استمرار تدهور سعر صرف الليرة، حتى أصبح اللبنانيون اليوم يعيشون أسوأ أيامهم منذ أجيال، حتى أن البعض يتندر بأنه حتى في ظل الحروب المدمرة لم تكن الظروف بالسوء التي هي عليه الآن، مع غياب أي بصيص أمل في الخروج قريباً من عنق الزجاجة، ومع انتهاء المهل التي أعطيت للإنقاذ من الداخل والخارج، فقد سبق وحدّد الرئيس الفرنسي مدة ستة أشهر، لتشكيل حكومة والبدء بانتشال السفينة من الغرق المحتوم، لكن يبدو أن آماله بُدّدت من قبل القوى الحاكمة، في وقت لم يتمكّن «الحراك الشعبي» من إنتاج بديل يجذب اللبنانيين.
وهذا كله سيؤدي حتماً إلى غرق السفينة اللبنانية، التي شبّهها الرئيس برّي، بـ«تايتانيك»، والرئيس عون بـ«جهنم»، بينما أعلن جنبلاط نفير الحرب…
Leave a Reply