عماد مرمل – «صدى الوطن»
تدفقت ملفات الفساد فـي لبنان دفعة واحدة، وفاحت من أنفاق السلطة الروائح الكريهة لفضائح متراكمة، بعضها مزمن وبعضها الآخر حديث.
تدحرجت الملفات السوداء كحجارات الدومينو، لتتكشف عن وقائع صادمة ومحميات سياسية احترفت الفساد واتقنت فنونه، بكل ما تنطوي عليه من سرقة للمال العام وضرب لحقوق الدولة المستنزفة.
وزير الداخلية نهاد المشنوق في زيارته الأخيرة للنائب وليد جنبلاط. |
من دويلة الانترنت غير الشرعي، الى فضيحة الاختلاسات فـي قوى الأمن الداخلي، مروراً بـ«صدمة» الاتجار بالبشر، وصفقة تركيب كاميرات المراقبة فـي شوارع بيروت.. حبل طويل من الارتكابات، يقترب من أعناق المتورطين، لكنه لن يلتف حولها إلا إذا أكمل القضاء مغامرة المساءلة والمحاسبة حتى النهاية، من دون اي مراعاة للأسماء المصنفة فـي خانة الوزن الثقيل.
وترافقت الفضائح المكتشفة مع تبادل الاتهام بين بعض السياسيين حول التورط فـي بعضها، خصوصاً بين النائب وليد جنبلاط ووزير الداخلية نهاد المشنوق، اللذين كال كلٌ منهما للآخر اتهامات مدوية، يكفـي أن يصح نصفها حتى نكون أمام «مغارة رسمية» تعج بالصفقات المشبوهة والمريبة التي تحمل تواقيع متنفذين ومتمكنين، استفادوا من تحلل مؤسسات الدولة كي يقيموا إمارات الفساد على انقاضها.
وإزاء تلاحق قضايا الفساد وانكشافها، بعد سنوات من التستر عليها والتغاضي عنها، يبدو القضاء اللبناني أمام اختبار صعب، لإثبات مصداقيته وجديته وحزمه وشفافـيته، فـي مواجهة حيتان المال وابطال الصفقات المشبوهة، الذين التهموا أجزاء كبيرة من جسم الدولة واللحم الحي للمواطنين، بغطاء -بل بشراكة- من بعض الممسكين بالسلطة، على المستويين السياسي والامني.
ووفق المعطيات المتوافرة، فان القضاة الذين يتولون التحقيق فـي ملفات الانترنت والاختلاس فـي قوى الامن والاتجار بالبشر وغيرها تعرضوا، ولا يزالون، لمداخلات وضغوط سياسية من جهات تربطها مصالح او روابط مع متهمين ومشتبه فـيهم، ما يدفع الى التساؤل عما إذا كان هؤلاء القضاة سيستطيعون الصمود فـي مواجهة المؤثرات المحيطة بهم، والمرشحة للتزايد، كلما تقدمت التحقيقات واقتربت ممن باتوا يُعرفون بـ«الرؤوس الكبيرة».
متفائلون
يعتقد المتفائلون أن القضاء سيتمكن من احتواء الضغوط ومقاومتها، لأنه يعمل تحت الأضواء الكاشفة والعيون المفتوحة، بعدما أصبحت المسائل التي يحقق فـيها قضايا رأي عام، وبالتالي فإن سمعته باتت على المحك ولن يكون سهلاً له أن يجازف بها مراعاة لخاطر هذا أو ذاك من الزعماء السياسيين.
ويعتبر أصحاب هذا الطرح ان القضاء امام فرصة ذهبية لاسترجاع البريق والهالة، وإحقاق الحق والعدالة، بعد الضمور الذي اصاب دوره وحضوره بفعل التدخل السياسي فـي عمله، ولعله يكفـي أن يمضي القضاء بملف واحد حتى النهاية من دون مسايرة او مهادنة، حتى يصبح هذا الملف نموذجا يُحتذى به، من شأنه ان يشجع القضاة الآخرين على تكرار الانجاز ومواصلة مشوار البحث عن كل الحقيقة وليس نصفها.
ويشير هؤلاء الى ان القضاء النزيه والشجاع بات من صمامات الامان الاخيرة فـي الدولة المعطلة والمنزوعة المؤسسات من رئاسة الجمهورية الشاغرة الى مجلسي النواب والوزراء المتعثرين، ما يعني أن مسؤولياته ضخمة وتتعدى حدود ملاحقة الفاسدين الى استنهاض«الأمل المقعد» فـي امكانية إعادة احياء مفهوم الدولة.
متشائمون
اما المتشائمون فـيعتبرون أن الرهان على القضاء خاسر، لأن هذه المؤسسة المؤتمنة على العدل، باتت رهينة القوى السياسية والطائفـية التي تتحكم بقواعد اللعبة فـي لبنان منذ زمن طويل.
ويرى هؤلاء ان القضاة الأساسيين لا يستطيعون التحرّر من المؤثرات السياسية، لان أهل السلطة هم الذين يتولون تعيينهم فـي مراكزهم، خصوصا الأساسية منها، وبالتالي فإن الاعتبارات المصلحية ستدفع القاضي الى مراعاة طلبات الزعيم السياسي، صاحب الفضل فـي تعيينه، حتى لو كانت هذه الطلبات مخالفة للقانون، على قاعدة ان الولاء لـ«القائد المفدى» يتقدم على الولاء للحقيقة، فـي نظام تسوده قواعد المحاصصة والمحسوبيات.
ويبدي القلقون خشيتهم من أن تتم لفلفة الملفات وأن يجري تمييع التحقيقات مع مرور الوقت، بحيث تقتصر المحاسبة فـي نهاية المطاف على بعض صغار المتورطين او متوسطي الحجم بأحسن الاحوال، فـي ظل استمرار سريان مفعول الحمايات السياسية والطائفـية للمرتكبين المدللين و«المصفّحين»، إلا إذا تقرر ان تتم التضحية بهذا أو ذاك لضرورات وحسابات تتعلق بالمصلحة العليا.. للزعيم.
من هنا، فإن «الواقعيين» يعتبرون أن السلطة القضائية، غير المستقلة استقلالاً حقيقياً، لا تستطيع لوحدها أن تخوض المعركة ضد الفساد حتى آخر متورط، مهما علا شأنه، ما لم تكن هناك تغطية حقيقية لها من رموز الطبقة السياسية المدعوين الى الكف عن التدخل فـي شؤون القضاء، وتركه يعمل وفق معايير مهنية، وإلا فان العدالة ستظل مبتورة وانتقائية، ومتأثرة بمزاجية السياسيين ومصالحهم، مع ما يتركه ذلك من تداعيات على أكثر من صعيد.
هل ينجح القضاء فـي الامتحان، ام يحكم على نفسه بالسجن وراء قضبان المسايرة والاستنسابية؟ الأيام المقبلة تحمل الرد.
Leave a Reply